“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة:
يستمر انسداد الأفق لليوم الثاني عشر من الحراك الشعبي اللبناني ضدّ فساد السلطة الحاكمة، وتبدو آفاق الحل مسدودة كليا على غرار الطرق اللبنانية التي أقفلها متظاهرون اليوم الإثنين بسياراتهم في ما أسموه “إثنين السيارات”، بهدف شلّ البلد وشرايينه الحيوية ومؤسساته دون وازع بحجة اسقاط النظام أو الحكومة بأقل تقدير.
إلا أن هذا الحراك فقد في يومه الثاني عشر بريقه ورونقه لدى غالبية المواطنين اللبنانيين، الذين أبدوا انزعاجا كبيرا من عملية منعهم من التجوّل والإنتقال الى أشغالهم بالقوة، وكذلك بسبب اقفال المدارس ومنع التلامذة من ارتيادها وقد دفع الأهل أقساطا باهظة في سبيل تعليم أولادهم، وكذلك بدأ الموظفون يحملون همّ قبض رواتبهم من المؤسسات العامة والخاصة، ودفع فواتيرهم وقبض حوالاتهم من الخارج في ظل اقفال المصارف مع هاجس الإنهيار المالي.
كذلك شعر كثر من اللبنانيين الذين شاركوا في الحراك في أيامه الأولى بنوع من القرف وسط مشهديات غريبة عن المجتمع اللبناني وتقاليده واخلاقياته تمثلت بكيل الشتائم لصحف ولصحافيين ولسياسيين بطريقة مقذعة، كأن تقف شلّة من المتظاهرين امس الى جانب كاتدرائية القديس جاورجيوس وجامع محمد الأمين حيث يرقد الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه ليصرخوا “كلو كلو خ….” لعدد من الشخصيات ومنهم اعلاميين وفنانين وسياسيين في مشهد اقل ما يقال فيه أنه مستهجن.
كذلك، تناقل الناشطون فيديو لفتاة تصرخ بأعلى صوتها وتكيل شتائم من فجّ وغميق بحق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وآخر لتناول “متظاهرين” للحشيشة في تظاهرات رياض الصلح وفي طرابلس، فضلا عن اعتداءات “ثوار” حزبيين على مواطنين عزّلا أرادوا اجتياز الطرق المقفلة لسبب طارئ.
وقد تبين من خلال جسّ نبض بعض المنظمين أن هؤلاء يصرون على الإستمرار بعصيان مدني بدا مفروضا على غالبية اللبنانيين، بهدف الوصول الى الفوضى، وهو هدف مرسوم منذ بداية الحراك يعتقد المخططون له أنه سيفرض تغيير الحكومة بالشارع ولكن…برئاسة سعد الحريري.
بيّنت تطورات الأيام الأخيرة رداءة الشعارات وهشاشتها وتلوّنها بحسب أهواء المفاوضات السياسية والدبلوماسية في الكواليس، وأظهرت وجود قطبة مخفية في هذا الحراك الذي انحرف عن مطالب الناس المعيشية والحياتية منذ أيامه الأولى، ليصبح وسيلة لإلغاء سياسيين محددين دون سواهم، والقضاء على طموحات مسترئسين، ولتصفية حسابات مع الحكومة، ولكن أيضا لقلب موازين القوى الإقليمية في الداخل اللبناني ووضع تركيبة جديدة تهمّش إيران عبر ليّ ذراعها الرئيسية في لبنان اي “حزب الله”. في حين لم يتوجه هؤلاء بمعظمهم الى أماكن نموذجية بالفساد مثل المرفأ ومصرف لبنان وسواهما.
تلقف “حزب الله” الرسالة بشكل جيد، فانسحب من الحراك، وانتقل الى مقاعد المتفرجين على مسرحية أعدّت خيوطها بإحكام، من قبل منظمات مختصة بتنظيم حراكات مشابهة، ومجتمع مدني مرتبط بتمويله بدول خليجية وازنة إقليميا تحرّك خيوط اللاعبين من الخارج وهنا يقرّ أكثر من مراقب بدور المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
ويشير المراقبون الى أن رصد تغريدات أكاديميين وباحثين وازنين في الدولتين وخصوصا الإمارات العربية المتحدة تؤكد بوضوح وجود حبكة معدّة مع الداخل اللبناني كما اشار أكثر من مصدر لموقع “مصدر دبلوماسي”، ولمّا سألنا عن الدليل الحسي لذلك أجاب بأن كل الأمور ستكشف في الوقت المناسب، ويكفي العودة الى النشاط غير الإعتيادي لممثلي هاتين الدولتين في السنة الأخيرة بين طرابلس وعكار والبقاع والشوف لتلمس جزء مما يحصل في لبنان. ويشير المصدر الذي رفض الكشف عن اسمه الى تغريدات لافتة لإماراتيين ذكر منها على سبيل المثال لا الحصر تغريدة للباحثة الإماراتية ورئيسة مركز الإمارات للسياسات وأستاذة العلوم السياسية إبتسام الكتبي قالت فيها أمس :” كل فئات الشعب اللبناني اعترفت بأنها موّلت وتموّل الثورة، من معاناتها الإقتصادية والأجتماعية والسياسية لكن نصر الله بلسانه يعترف بأن من يموّل حزبه هي إيران”. وقالت في تغريدة ثانية:” إن القواسم المشتركة في احتجاجات ومظاهرات العراق ولبنان تكاد تكون واحدة: “التهميش والإفقار والفساد السياسي والمالي، وتغوّل الميليشيات الطائفية وارتهانها لإيران، وردود القوى الحكومية والسياسية في كل من البلدين على المظاهرات أيضا واحدة: العنف المسلح والإتهام بالتآمر مع الخارج”.
وكتبت الكتبي منذ يومين: “الممانعة والمقاومة في عرف نصر الله هي ممانعة ومقاومة أية انتفاضات أو احتجاجات ضده وضد الحكومة التي يهيمن عليها”.
أما في اليوم السادس للحراك فكان للكتبي تغريدة جدّا لافتة قالت فيها:” اذا نجحت الإنتفاضة اللبنانية في إعادة هيبة الدولة الوطنية واقصاء وتحجيم “حزب الله” على مؤسساتها، فهذا النجاح لن ينعكس إيجابيا على لبنان فقط، وإنما على جميع الدول التي تحاول الميليشيات المسلحة فيها استنساخ نموذج حزب الله كالعراق واليمن”. من جهتهم ركّز مغردون سعوديون منهم الدكتور حمد الشهري على أن “مشكلة لبنان ليست اقتصادية، فمصيبته أعمق فمن يحكم البلد ليسوا مجرد مجموعة الفاسدين يتم محاكمتهم و الزج بهم في السجون، إنما مشكلة لبنان في قراره السياسي المخطوف بقوة السلاح والإرهاب وإن لم يتم اجتثاث باترون المخدرات والإرهاب نصر الشيطان فسيبقى البلد تحت حكم الديابولو الكبير”.
هذا الإنتقال من المعيشي الحياتي الى السياسي المباشر، تلقفه المعنيون وسط مقالات وتغريدات لصحافيين لبنانيين وإعلاميين وإعلاميات معروفين بولاءاتهم الخارجية يبشرون بانتهاء ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة” لتصبح الجيش والشعب لوحده، وكان لافتا انتقال هؤلاء مع عدد من رؤساء جمعيات في المجتمع المدني (ومنهم رجال دين) الى الترويج لتظاهرات العراق وربط الساحتين اللبنانية والعراقية بمصير واحد! وكذلك فعل صقور سابقون في قوى 14 آذار، وقوى مجتمعية حية وأساتذة جامعات وازنين وباحثين لبنانيين في الخارج يعملون على خط “الثورة بقوة” وجميعهم معروفين بتوجهاتهم.
ويذهب بعض هؤلاء الى اقتراح تدويل لبنان تحت البند السابع، والى تنفيذ سيناريو السودان ليكون حكم عسكري يطيح بالطبقة الحاكمة مع موازين قوى جديدة وتحالفات اقليمية جديدة سترغم “حزب الله” على التأقلم معها.
في المقابل، يبدو محور “حزب الله” ومن ورائه إيران متمسكين بالعهد أي بالرئيس ميشال عون، يدعمهما في ذلك “فيتو” اسقاط الرئيس الماروني من بكركي والفاتيكان، وكذلك “فيتو” آخر أميركي فرنسي يمنع اسقاط رئيس الحكومة سعد الحريري، ووسط “فيتوين” يبدو الأفق مسدودا. فإيران التي يجاهر مقربون منها بأن إستقرار لبنان وعهد الرئيس عون خطّ أحمر لن تقبل بعد أن ربحت معارك قاسية في سوريا وغيرت موازين في اليمن أن تخسر الساحة اللبنانية تحت وطأة محتجين يحركهم مجتمع مدني مرتهن بتمويله وقراره وبعض الأحزاب الداخلية التي فقدت بريقها وصدقيتها منذ زمن بعيد. أما الطرف الآخر، المدعوم أميركيا وسعوديا وإماراتيا فيعتبر بأنه آن الأوان لخلط الأوراق، وأن خسارة سوريا لصالح روسيا تحتّم العودة الخليجية من البوابة اللبنانية، فلبنان سيكون منصة لهذه البلدان للإعمار في سوريا وللمساهمة في استثمار ثرواته النفطية والغازية ومرافئه ومرافقه الحيوية كالمطارات عوض أن تكون بيد إيران، وقد عجّلت ضربة شركة “ارامكو” في أيلول الفائت والتي اتهمت ايران بتنفيذها من اتخاذ قرار الحسم في لبنان.
إلا أن الأرض اللبنانية التي يشبهها بعض الخليجيين بأنها ستحاكي السودان هي مختلفة تماما، لأنها رمال متحركة ولأن الشعب اللبناني لا يمكن أن يتنبّأ أحد بردود فعله، ولأن الثورة اللبنانية إن اندلعت وغرقت في الفوضى فستتطاير شراراتها الى أكثر من بلد، ولعلّ “حزب الله” سيكون اشد الرابحين وخصوصا في ظل مطالبات المتظاهرين بتغيير النظام ما يعني أن هؤلاء يقدمون للحزب نسف اتفاق الطائف على طبق من فضة. القصة في لبنان ليست قصة بقاء عون وباسيل، بل هي تحولت بفعل تشويه أهداف الحراك الى تجاذب النفوذ بين إيران من جهة والإمارات والسعودية من جهة ثانية فيما الولايات المتحدة الأميركية وروسيا تتفرجان على شدّ حبال لن يحرق إلا بلدا جديدا في الشرق الأوسط.