“مصدر دبلوماسي”- المحامي منير الشدياق:
يعيد موقع “مصدر دبلوماسي” نشر هذا التقرير الذي نشرته مجلة “الأمن العام” في عددها الرقم 72 الصادر في ايلول 2019. لقراءة لمزيد من مواضيع المجلة الضغط على الرابط الآتي لموقع “مصدر دبلوماسي”:
http://www.general-security.gov.lb/ar/magazines
تفرض كل القوانين في العالم عدم افشاء السر المهني في العديد من المهن الحرة كالطب والمحاماة وسواها، والسر الوظيفي في القطاعين الخاص والعام، والسر الشخصي بالنسبة الى الافراد، وذلك تحقيقا لهدفين اساسيين ساميين: اولهما حماية المصلحة العامة للمرفق العام الذي يشاركون في تسييره. ثانيهما احترام الحرية الشخصية التي تكرسها الدساتير
كل المعلومات التي تتصل بعمل المديرية العامة للامن العام تنقسم، بحسب القانون اللبناني، الى فئتين اثنتين لا ثالث لهما: الاولى تصنف اسرار وظيفية يوجب القانون عدم البوح بها الا في حالات قانونية استثنائية تحت طائلة معاقبة الفاعل. الثانية لا تصنف اسرارا وظيفية، وبالتالي يجوز لاي كان معرفتها وتداولها من دون قيد او شرط.
في الاستنتاج، القانون يشكل الحد الفاصل بين ما هو مسموح او ممنوع من الافشاء من معلومات واسرار.
ما تعريف السر المهني او الوظيفي او الشخصي؟ ما المهن او الوظائف او الحالات الاجتماعية التي يوجب القانون فيها عدم افشاء الاسرار المتصلة بها؟ هل هناك مستندات او وثائق تعد بحسب القانون سرية بطبيعتها؟ كيف تقارب المديرية العامة للامن العام جوانب هذا الموضوع الحساس؟
التعريف
لا يوجد في العالم، حتى يومنا هذا، تعريف تقني محدد للسر المهني او الوظيفي او الشخصي وسواه، بحيث تعددت الاراء والمعايير المعتمدة في تحديد مفهومه ونطاقه بين فقيه من هنا وقانون او اجتهاد من هناك. ففي حين اعتبر البعض كل معلومة يتسبب افشائها في ضرر مادي او معنوي على صاحبها، نجد ان البعض الاخر اعتبر كل معلومة لا يعرفها الا اشخاص محددون، اي ليس عموم الناس. كما ان اخرين اعتبروا كل معلومة يريد صاحبها، صراحة او ضمنا، ان تبقى طي الكتمان لاسباب شخصية تتصل به لوحده. بدوره القانون اللبناني لم يعط تعريفا محددا وحصريا للاسرار، وانما وضع قواعد عامة يمكن الاستدلال من خلالها على ماهية ونطاق المعلومات التي تعتبر كذلك. للتوضيح، نشير الى ان المادة 579 من قانون العقوبات الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 340 في تاريخ الاول من اذار 1943 نصت على انه: “من كان بحكم وضعه او وظيفته، او مهنته او فنه، على علم بسر وافشاه من دون سبب شرعي او استعمله لمنفعته الخاصة او لمنفعة اخر، عوقب بالحبس سنة على الاكثر وبغرامة لا تتجاوز اربعمئة الف ليرة، اذا كان من شأن الفعل ان يسبب ضررا ولو معنويا”. بالتالي، من تلك المادة يمكن ان نستنتج معطيات عدة:
اولها: ان هناك شروطا خاصة يفترض توافرها مجتمعة للقول بوقوع جريمة افشاء الاسرار. تلك الشروط هي:
– ان يفشي السر من علم به بحكم وضعه او وظيفته او مهنته و فنه: ما يجدر التوقف عنده هنا هو عبارة “بحكم وضعه” كونها تترك المجال مفتوحا على مصراعيه امام اي شخص للقول بان هذا الوضع او ذاك، كالعلاقة الزوجية السابقة بين زوجين مطلقين مثلا، حتم معرفة الشخص الاخر للسر. ويبقى للقضاء الكلمة الفصل في بت مسألة تقدير ما اذا كان الوضع المدعى به يحتم او لا يحتم قيام المدعي باخبار سره الى الشخص الاخر المدعى عليه، على اعتبار ان الاوضاع الاخرى التي استعرضتها المادة، كمسألة علم الموظف بسر يتصل بوظيفته مثلا، او المحامي بسر يتصل بموكله، يكون اكثر وضوحا كون القانون يحدد مسبقا تفاصيل كل تلك العلاقة الوظيفية او المهنية ويفرض فيها الحفاظ على السر الوظيفي او المهني بشكل تام وكامل.
– ان يتم الإفشاء من دون سبب شرعي. لتوضيح الفكرة هنا نعطي المثل الاتي. ان المحامي الملزم بحفظ سر موكله، لا يبقى ملزما بحفظه اذا كان يتمحور حول علمه ان ذاك الموكل يخطط لقتل خصمه مثلا، او لوضع عبوة ناسفة في منزله. فالواقعة غير المشروعة تعد خارج اطار الحماية القانونية للسر المهني او الوظيفي او الخ.
– أن يسبب الافشاء ضررا ماديا او معنويا لصاحبه.
ثانيها: من البديهي القول انه يجب ان تكون المعلومة غير معروفة من عموم الناس، لان مثل تلك المعلومات لا يمكن ان تعد اسرارا. ولكن، بحسب اجتهادات المحاكم اللبنانية، اذا كانت المعلومات المتداولة بين العموم عن حدث يتصل بعمل احد الاجهزة الامنية مثلا مصدرها الاشاعات او التحليلات الصحافية او السياسية مثلا، اي غير مؤكدة من اي جهة كانت، ومن ثم اقدم احد العسكريين او الضباط في ذاك الجهاز على تأكيد المعلومة، فان تأكيده في مثل هذه الحالة يعد كشفا للاسرار، لان طبيعة عمله ومركزه من شأنهما تحويل المعلومة من اشاعة الى حقيقة تعد مثابة كشفا للاسرار.
ابرز الجهات
بمراجعة التشريع اللبناني نجد ان ابرز الجهات المقيدة بكتمان الاسرار التي افرد لها المشرع قوانين خاصة بها هم: المحامون، القضاة، الاطباء، الصيادلة، المحاسبون، رجال الدين، الموظفون، العسكريون، المصرفيون. وكذلك سائر المواطنين الاخرين بشكل عام، والعاملين في القطاع الخاص، استنادا الى القوانين العامة. اليكم ابرز التفاصيل.
القطاع الخاص
تنص المادة 345 من قانون العقوبات على ان: “كل عامل في القطاع الخاص، مستخدما كان ام خبيرا او مستشارا، وكل من ارتبط مع صاحب عمل بعقد استخدام لقاء اجر، التمس او قبل لنفسه او لغيره هدية او وعدا او اي منفعة اخرى لكشف اسرار او معلومات تسيء الى العمل او للقيام بعمل او الامتناع عنه بقصد الحاق الضرر المادي او المعنوي بصاحب او بصالح العمل، يعاقب بالحبس من شهرين الى سنتين وبالغرامة من مئة الف الى مئتي الف ليرة لبنانية”.
المحامي
تنص المادة 92 من قانون تنظيم مهنة المحاماة الصادر تحت الرقم 8 في تاريخ 11 اذار 1970 على انه: “لا يجوز للمحامي ان يفشي سرا ائتمن عليه او عرفه من طريق مهنته ولو بعد انتهاء وكالته ولا يجوز له اداء شهادة ضد موكله في الدعوى التي يتولى الوكالة فيها او كان وكيلا فيها”. وتضيف المادة 99 من القانون:” كل محام، عاملا كان او متدرجا، يخل بواجبات مهنته المعينة بهذا القانون او يقدم في اثناء مزاولة تلك المهنة او خارجا عنها، على عمل يحط من قدرها، او يسلك مسلكا لا يأتلف وكرامتها يتعرض للعقوبات التأديبية الاتية:
1– التنبيه.
2– اللوم.
3– المنع من مزاولة المحاماة مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات.
4– الشطب من جدول النقابة.
الطبيب
جاء في المادة 7 من قانون الاداب الطبية الصادر تحت الرقم 288 في تاريخ 22 شباط 1994 ما يلي: “السرية المهنية المفروضة على الطبيب هي من النظام العام، وعليه التقيد بها في كل الظروف التي يدعى فيها الى معالجة مريض او الاستشارة، مع مراعاة الاستثناءات التي تفرضها السلامة العامة (كحال الطبيب الذي يكتشف مثلا عند معاينته للمريض في منزله بأن وضعه يتطلب نقله فورا الى المستشفى، فيقوم بالطلب الى جيرانه مساعدته على ذلك، ويكتشف الجيران ما يعاني منه المريض بفعل مساعدتهم للطبيب) والقوانين والانظمة (كموجب الطبيب ابلاغ القوى الامنية او القضاء عن اي جريمة علم بها في اثناء او في مناسبة ممارسته لمهنته) والعقود (كعقد سابق بين المريض والطبيب يتضمن التزام الطبيب اعلام اقارب المريض او اصدقائه بوضعه الصحي اذا فقد الوعي مثلا). تشمل هذه السرية المعلومات التي يفضي بها المريض اليه، وكل ما يكون قد رآه او علمه او اكتشفه، او استنتجه في سياق ممارسة مهنته او بنتيجة الفحوص التي اجراها”. وتضيف انه: “لا يكفي اعفاء المريض طبيبه من السرية المهنية لاسقاط هذا الموجب، اذ يبقى الطبيب ملزما مراعاة مصلحة المريض ومقتضيات النظام العام”. اي، حتى ولو اعفاه المريض صراحة من حفظ السر المهني.
وتنص المادة 61 من القانون نفسه على ان: “كل مخالفة لاحكام هذا القانون، تعرض مرتكبها للاحالة الى المجلس التأديبي”.
وتنص المادة 37 من القانون رقم 313 الصادر في تاريخ 3 نيسان 2001 (قانون تعديل القانون المتعلق بانشاء نقابتين للاطباء في لبنان) على انه: “اذا خالف اي عضو من أعضاء النقابة، لبنانيا كان ام غير لبناني، واجبات مهنته أوعرّض كرامته لما يمس شرفه او استقامته او كفاءته تطبق في حقه احدى العقوبات الاتية:
1 ـ التنبيه.
2 ـ اللوم.
3 ـ التوقيف الموقت عن العمل لمدة لا تتجاوز ستة اشهر.
4 ـ المنع من ممارسة المهنة نهائيا.
القاضي
تنص المادة 83 من قانون القضاء العدلي الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 150 في تاريخ 16 ايلول 1983 على انه: “كل اخلال بواجبات الوظيفة وكل عمل يمس الشرف او الكرامة او الادب يؤلف خطأ يعاقب عليه تأديبيا. يعتبر بنوع خاص اخلالا بواجبات الوظيفة التخلف عن الجلسات وتأخير بت الدعاوى وعدم تحديد موعد معين لافهام الحكم عند ختام المذاكرة، والتمييز بين المتقاضين، وافشاء سر المذاكرة”.
المصرفي
تنص المادة 2 من قانون سرية المصارف الصادر في تاريخ 3 ايلول على: “ان مديري ومستخدمي المصارف… وكل من له اطلاع بحكم صفته او وظيفة باية طريقة كانت على قيود الدفاتر والمعاملات والمراسلات المصرفية يلزمون كتمان السر اطلاقا لمصلحة زبائن هذه المصارف ولا يجوز لهم افشاء ما يعرفونه عن اسماء الزبائن واموالهم والامور المتعلقة بهم لاي شخص فردا كان ام سلطة عامة ادارية او عسكرية او قضائية، الا اذا اذن لهم بذلك خطيا صاحب الشأن او ورثته او الموصى لهم او اذا اعلن افلاسه او اذا نشأت دعوى تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصارف وزبائنها”.
وتنص المادة 8 من القانون على ان: “كل مخالفة عن قصد لاحكام هذا القانون يعاقب مرتكبها بالحبس من ثلاثة اشهر حتى سنة، والشروع في الجريمة معاقب عليه بالعقوبة نفسها. لا يتحرك الحق العام الا بناء على شكوى المتضرر”.
الموظف العام
تنص المادة 15 من نظام الموظفين الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 112 في تاريخ 12 حزيران 1959 على انه: “يحظر على الموظف ان يقوم باي عمل تمنعه القوانين والانظمة النافذة، ولاسيما:
8- ان يبوح بالمعلومات الرسمية التي اطلع عليها في اثناء قيامه بوظيفته، حتى بعد انتهاء مدة خدمته، الا اذا رخصت له وزارته خطيا بذلك”.
كما جاء في المادة 54 من القانون انه: “يعتبر الموظف مسؤولا من الوجهة المسلكية ويتعرض للعقوبات التأديبية اذا اخل عن قصد او عن اهمال بالواجبات التي تفرضها عليه القوانين والانظمة النافذة…الخ”.
وقد نصت المادة 55 على ان: “العقوبات التأديبية درجتان:
الدرجة الاولى:
1 – التأنيب .
2- حسم الراتب لمدة خمسة عشر يوماً على الاكثر.
3- تأخير التدرج لمدة ستة اشهر على الاكثر.
الدرجة الثانية:
1- تأخير التدرج لمدة ثلاثين شهرا على الاكثر.
2- التوقيف عن العمل من دون راتب لمدة لا تجاوز ستة اشهر.
3- انزال درجة واحدة او اكثر ضمن الرتبة نفسها.
4- انزال الرتبة.
5- انهاء الخدمة.
6- العزل.
العسكري
اضافة الى العقوبات التي قد تطاول العسكري بشكل عام باعتباره موظفا، نجد ايضا ان المادة 130 من قانون القضاء العسكري الصادر تحت الرقم 24 في تاريخ 13 نيسان 1968، تطرقت بشكل خاص الى حالة افشاء الاسرار الى العدو، حيث نصت على انه: “يعاقب بالاعدام كل عسكري يسلم العدو الجند الذي هو تحت امرته او الموقع الموكول اليه الدفاع عنه او يسلمه مؤن الجيش او خرائط المواقع الحربية او المعامل او المرافئ او الاحواض او يبوح له بكلمة السر او بأي من اسرار الاعمال العسكرية”.
باقي العقوبات
بالاضافة الى العقوبات التأديبية، المنصوص عليها في القوانين الخاصة التي تحكم عمل مختلف الفئات المعنية بحفظ السر المهني او الوظيفي او سواهما، التي قد يتعرض لها من ارتكب جرم افشاء السر من نقابته او ادارته او رب عمله، بناء على شكوى الشخص المتضرر. يكون للمتضرر ايضا اضافة الى ذلك، حق مراجعة القضاء المختص للمطالبة بانزال العقوبات بمن ارتكب جرم كشف السر، وبالمحرض والشريك والمتدخل معه في ذاك الجرم، كما لمطالبته او مطالبتهم ايضا بالعطل والضرر. كل ذلك وفقا للاصول والشروط التي تحددها القوانين النافذة ذات الصلة.
وثائق ومستندات
بمراجعة القوانين ذات الصلة، نجد ان هناك مستندات ووثائق يصنفها القانون على انها سرية بطبيعتها، وبالتالي يعاقب كل من يقدم على نشرها. من تلك النصوص نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، ما جاء في المادة 420 من قانون العقوبات وهو الاتي:
“يعاقب بالغرامة من خمسين الف إلى مئتي الف ليرة من ينشر:
1- وثيقة من وثائق التحقيق الجنائي او الجناحي قبل تلاوتها في جلسة علنية.
2- مذكرات المحاكم.
3- محاكمات الجلسات السرية.
4- المحاكمات في دعوى نسب.
5- المحاكمات في دعاوى الطلاق او الهجر.
6- كل محاكمة منعت المحاكم نشرها. الخ..”
بين الشهادة وحفظ السر
تنص المادة 92 من قانون اصول المحاكمات الجزائية الصادر تحت الرقم 328 في تاريخ 2 اب 2001 انه: “على كل شخص توافرت لديه معلومات تنير التحقيق ان يبادر الى الادلاء بشهادته امام قاضي التحقيق تحت طائلة…”. في المقابل نجد ان المادة 29 من القانون نفسه تنص على: “ان الشاهد لا يعفى من الادلاء بافادته الا اذا اثبت انه ملزم قانونا حفـظ السر، وإذا رأى قاضي التحقيق ان التذرع بسر المهنة او بالسـر المصرفي في غير محله القانوني فيتخذ، بعد ان يستطلع رأي النيابة العامـة الاستئنافية، قرارا برد تذرعه”.
بالتالي، تلك النصوص تبين لنا بوضوح ان المشترع اللبناني غلّب موجب كتمان السر على موجب الشهادة، ما لم يوافـق او يأذن صاحب السـر بكشفه.
الامن العام
بديهي القول ان الاحكام القانونية الخاصة بالموظفين والعسكريين، المشار اليها اعلاه، تطبق على ضباط ورتباء وعناصر المديرية العامة للامن العام. اما لناحية كيفية مقاربة المديرية لهذا الموضوع في مجمله، فيتجلى ذلك من خلال ما يؤكده دائما مديرها العام اللواء عباس ابراهيم في هذا الصدد، في كل اجتماعاته مع العسكريين كما في لقاءاته مع الاعلاميين، ومفاده انه: “ليس لدينا اسرار كما يظن البعض، بل جل ما في الامر ان القوانين اللبنانية النافذة توجب علينا حفظ وحماية الاسرار الوظيفية الخاصة بالمديرية العامة للامن العام، ومن ضمنها اسرار الدولة اللبنانية. فنحن نطبق احكام القانون الذي يعلو ولا يعلى عليه”.