“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
يعيد موقع “مصدر دبلوماسي” نشر هذا التقرير الدبلوماسي الذي نشرته مجلة الأمن العام في عددها لآذار 2019. لقراءة المزيد من مواضيع المجلة زيارة الرابط الآتي:
http://www.general-security.gov.lb/ar/magazines
يثير قطع العلاقات الديبلوماسية بين الدول، ومفاعليه على الحصانة الديبلوماسية لممثلي الدول المعنية، اشكالات سياسية وقانونية. يحصل خلط احيانا بين قطع العلاقات وسحب الاعتراف بالدول، ويطاول اللغط ايضا خفض مستوى التمثيل بين دولتين، او استدعاء احداهما لسفيرها في الدولة الاخرى
استدعت فرنسا مطلع شباط الفائت سفيرها في ايطاليا كريستيان ماسي للتشاور عقب تصريحات اعتبرتها هجومية لمسؤولين ايطاليين، ثم اعلن وزير الخارجية الفرنسي جان – ايف لودريان عن عودته الى منصبه. قبل شهرين اعلن المغرب قطع علاقاته مع ايران. هناك دول تقوم احيانا بخفض مستوى التمثيل لدى دولة اخرى.
ما هو الفارق بين استدعاء دولة سفيرها للتشاور، وقطع العلاقات الديبلوماسية، وخفض مستوى التمثيل؟ ما تداعيات كل تدبير من هذه التدابير، وتأثيره على حصانة الديبلوماسيين؟ هل يعني قطع العلاقات سحب الاعتراف بين الدول؟
هذه المسألة متشعبة كما يقول السفير اللبناني احمد عبدالله الذي تقاعد عام 2012، ويشغل حاليا مركز امين سر “منتدى سفراء لبنان”، بعدما شغل مناصب عدة في تركيا ونيويورك وسويسرا والجزائر والمغرب واليابان والصين وبلغراد، كما شغل مركز رئيس الدائرة القنصلية، مدير الشؤون العربية، ثم مدير الرموز خلال فترات وجوده المتقطعة في وزارة الخارجية والمغتربين.
يشير عبدالله الى ان “الاعتراف شيء مهم في حياة الدولة ضمن المجتمع الدولي، فالدولة – كما يعرّفها القانون الدولي العام – تتشكل من ثلاثة عناصر: الشعب والاقليم والسلطة السياسية التي تمثل الشخصية المعنوية للدولة. الاعتراف حدث مهم في حياتها لانها لا تستطيع ممارسة سياستها الخارجية، وحماية رعاياها المنتشرين في الخارج، والتمتع بحقوقها كاملة تجاه الدول الاخرى، الا اذا اعترفت هذه الدول بوجودها. هذا الاعتراف قد يكون صريحا باعلان دولة (او دول عدة) اعترافها بدولة اخرى، ويستتبع ذلك اقامة علاقات ديبلوماسية (وغيرها من الاتفاقات والعلاقات) معها. قد لا يحصل تبادل للبعثات الديبلوماسية، رغم الاعتراف، لاسباب قاهرة كالعجز عن تحمل نفقات انشاء البعثة، او صغر حجم السلك الديبلوماسي فيها الذي لا يكفي للتمثيل في كل الدول المعترف بها، وعندها يتم الاكتفاء بالتمثيل القنصلي او تعيين قناصل فخريين. كما قد يكون الاعتراف ضمنيا بمجرد المبادرة الى اقامة علاقات ديبلوماسية بين الدولتين، لان قرار التبادل الديبلوماسي مع دولة هو اعلان غير مباشر بالاعتراف بها”.
يضيف السفير عبدالله: “اذن، الاعتراف بدولة لا يعني بالضرورة انشاء بعثة ديبلوماسية فيها. لكن انشاء علاقات ديبلوماسية يعني الاعتراف بها، وقطع العلاقات الديبلوماسية مع دولة لا يعني بالضرورة سحب الاعتراف بها، الا اذا تضمن قرار قطع العلاقات سحب هذا الاعتراف”.
ويلفت الى ان “قرار تخفيض مستوى التمثيل من قبل الدولتين (او احداهما) الى مستوى وزير مفوض او قائم بالاعمال مثلا، او الاقتصار على التبادل القنصلي (او حتى اقفال البعثة) قد يكون احتجاجا او خلافا محدودا مثلما قد يكون لتخفيف الاعباء المالية، ولا يعتبر قطع علاقات طالما لم يصدر اعلان رسمي بذلك. كذلك استدعاء دولة لسفيرها لدى دولة اخرى، قد يكون للتشاور في مسألة ايجابية (كتعزيز العلاقات بين البلدين من خلال ابرام معاهدة او انشاء لجنة مشتركة)، او لمسألة سلبية (احتجاج على موقف للدولة الاخرى او تصريحات ادلى بها مسؤولون فيها)، وهذا ما حصل اخيرا بالنسبة الى استدعاء فرنسا لسفيرها في ايطاليا”.
يقول السفير عبدالله انه في حالات اخرى “يمكن ان يكون مؤشرا للنية في قطع العلاقات او خفض مستوى التمثيل، لاسيما في دول العالم الثالث. اما قطع المغرب للعلاقات مع ايران فقد صدر بموجب اعلان صريح من المغرب، معتبرا ان ايران تتدخل في شؤونه، وهذا يقتضي اغلاق البعثات الديبلوماسية وسحب الديبلوماسيين (جميعهم)، ولكن هذا لا يمنع الابقاء على تمثيل قنصلي مستقل عن البعثة الديبلوماسية اذا اراد الطرفان ذلك. كما لا يمنع تكليف كل من الدولتين لدولة ثالثة برعاية مصالحها في الدولة الاخرى، وهذا يتطلب موافقة المغرب على الدولة التي سترعى مصالح ايران على الارض المغربية، وموافقة ايران ايضا على الدولة التي سترعى مصالح المغرب في ايران. وهذا القطع للعلاقات لا يعني سحب اعتراف اي من الدولتين بالاخرى طالما لم يصدر اعلان صريح بذلك”.
ويعلق السفير عبدالله: “نرجو ان لا يستمر هذا القطع طويلا، خصوصا وان العلاقات قد تم قطعها سابقا بين البلدين ثم عادت”.
اما لجهة التأثير سلبا على حصانة السفير وديبلوماسيي البعثة، فيقول: “لا شيء من هذا القبيل الا لجهة عودتهم الى بلادهم. فالحصانة تبقى لغاية مغادرتهم البلد المضيف. وقد نصت على ذلك المادة 39 في اتفاقية فيينا للعلاقات الديبلوماسية عام 1961، وهي اشبه بالدستور في العلاقات الدولية. واضافت ان حصانة الديبلوماسي الشخصية تبقى قائمة حتى في حالة وجود نزاع مسلح، وتستمر الحصانة قائمة مع ذلك، بالنسبة الى الاعمال التي يقوم بها هذا الشخص الديبلوماسي في اثناء اداء وظيفته”.
نصت المادة 44 من الاتفاق على ما يلي: “يجب على الدولة المعتمد لديها (المضيفة)، حتى في حالة وجود نزاع مسلح منح التسهيلات اللازمة لتمكين الاجانب المتمتعين بالامتيازات والحصانات، وتمكين افراد اسرهم ايا كانت جنسيتهم من مغادرة اقليمها في اقرب وقت ممكن. وعليها بصفة خاصة وعند الاقتضاء، ان تضع تحت تصرفهم وسائل النقل اللازمة لنقلهم ونقل اموالهم”. هذه الحصانة والحماية لا تقتصر على اشخاص الديبلوماسيين واموالهم بل تمتد الى حماية دار البعثة، – بحسب السفير عبد الله – فقد نصت المادة 45 من اتفاق فيينا على انه يتوجب على الدولة المضيفة، حتى في حالة وجود نزاع مسلح مع الدولة التي تمثلها البعثة الديبلوماسية “احترام وحماية دار البعثة وكذلك اموالها ومحفوظاتها”. واضافت انه “يجوز لدولة البعثة ان تعهد بحماية بعثتها وحراستها وحراسة اموالها وممتلكاتها وحماية رعاياها الى دولة ثالثة شرط موافقة الدولة المضيفة على هذه الدولة”.
هل تقتصر الحصانة على احترام الديبلوماسيين ومقر البعثة، والاعفاء من التفتيش والرسوم والضرائب، وتأمين عودة الديبلوماسيين سالمين الى دولتهم؟
يجيب السفير عبد الله: “لو علمنا الحدود الواسعة التي وصلت اليها امتيازات الديبلوماسيين وحصاناتهم (وخصوصا السفراء)، التي نص عليها اتفاق فيينا، لعرفنا القدر الكبير من المهابة والحماية الشاملة المطلقة والتكريم الذي امنّه لهم هذا الاتفاق “ما يجعل هذه الوظيفة على قدر كبير من الاهمية والخطورة في آن”، كما يقول العلاّمة الراحل الدكتور صبحي المحمصاني. فبالاضافة الى اعفائهم من الضرائب والرسوم على اختلافها وتكريمهم حيثما يحلّون، كما ذكرت، يتمتعون – مثل مقر البعثة ودارة سكن السفير- بحرمة امكنة اقامتهم وملحقاتها التي تخصهم سواء داخل مقار البعثة ام خارجها، او في منزل اضافي ثانوي يستخدمونه كاقامة دائمة، او في اوقات العطلة او الفراغ (للتسلية او للسياحة) بحسب المادة 22 من اتفاق فيينا. وكذلك سياراتهم وحقائبهم ومراسلاتهم وحساباتهم المصرفية، فلا يجوز التعرض لها من حجز وتفتيش واستيلاء. بالاضافة الى ذلك – وهو الاهم والاخطر- الحرمة الشخصية والحصانة القضائية المطلقة”.
ماذا لو تم الشك في احتواء الحقائب موادا ممنوعة كالمخدرات مثلا، فهل تعفى من التفتيش في هذه الحالة؟
يقول السفير عبدالله: “لم يتحدث اتفاق فيينا عن المخدرات، ولكنه تحدث عن مواد يحظر القانون استيرادها او تصديرها، وهذا ينطبق على المخدرات. فاذا كانت المعلومات مؤكدة، يمكن سلطات البلد المضيف ان تطلب تفتيش الحقيبة، ولكن لا يجوز اجراء التفتيش الا في حضور الديبلوماسي او ممثله المفوض. غالبا ما تتم موافقة صاحب العلاقة على ذلك، لان الرفض يعزز الشكوك. اما اذا رفض – غالبا يكون الرفض عنيفا باعتباره اهانة وخرقا للحرمة الشخصية – فان الرد قد يكون تفتيش الحقيبة لان اتفاق فيينا تحدث عن “مواد يحظر القانون استيرادها او تصديرها”. كما قد يكون الرد عدم تفتيش الحقيبة استنادا الى الحرمة الشخصية المطلقة للديبلوماسي التي نص عليها ايضا الاتفاق. لكن يجوز للدولة المضيفة في هذه الحالة ان تعتبر ذلك الديبلوماسي شخصا غير مرغوب فيه (Persona non grata) وتطلب من دولته سحبه، فاذا لم يحصل ذلك يجوز لها طرده. في كل الاحوال، يجب احترام حرمته الشخصية وحصانته القضائية وعدم التعرض له بعنف او خارج اللياقة حتى بالكلام”.
يشير السفير عبدالله الى ان “قطع العلاقات الديبلوماسية لا يلغي الحصانة، بل تبقى الحصانة الديبلوماسية قائمة حتى في حالة الحرب والنزاع المسلح بين الدولتين، ولا تنتهي الا بعودة الديبلوماسيين الى بلادهم”.
ويلفت الى ان “جميع الامتيازات والحصانات والتكريمات والاعفاءات هي نتاج لمبدأ الحرمة الشخصية وتتعلق به كمتممات له. وهو نتيجة ضرورية للحقوق الاساسية للاستقلال والسيادة والاحترام المتبادل للدول. فالمبعوثون الديبلوماسيون يمثلون دولهم، وكل تصرف عدواني مهما كان بسيطا تجاههم يشكل، في نظر الفقيه الدولي فوشي ليس فقط اهانة لدولتهم بل اعتداء على القانون الدولي وعلى امن كل الامم”.
ويعود السفير الى قانون العقوبات اللبناني الذي ينص في المادة 292 على معاقبة بالحبس والغرامة، بناء على شكاوى المتضرر من جرائم تحقير دولة اجنبية او جيشها او علمها او شعارها الوطني علانية، او تحقير رئيس دولة اجنبية او وزرائها او ممثلها الديبلوماسي في لبنان، وان المادة 293 منه تنص على ان الجرم المقترف على الارض اللبنانية، بفعل شخص لبناني، على رئيس دولة اجنبية او احد وزرائه او ممثله الديبلوماسي في لبنان، ولا نص على عقوبته، يتم تشديد العقوبة القانونية على نحو ما ذكر في المادة 257. ويشير الى “ان هذه الحرمة الشخصية للديبلوماسي تسري على دولة ثالثة غير الدولة المعتمد لديها، في اثناء مروره في اقليمها اذا كان جواز سفره الديبلوماسي يحمل تأشيرات من هذه الدولة، وان هذه الحرمة الشخصية تشمل افراد اسرته ايضا، كما ان الديبلوماسي غير مجبر على الادلاء بشهادته امام المحاكم، بحسب نص المادة 31 من اتفاق فيينا”.
اما بالنسبة الى الحصانة القضائية “فهي مطلقة ولا تجوز مقاضاته امام المحاكم في الدولة المضيفة، ليس فقط بسبب حصانته الديبلوماسية بل لسبب عدم اختصاص هذه المحاكم، فالديبلوماسي يحاكم لدى محاكم بلده. وهذه الحصانة القضائية شاملة اطلاقا في القضايا الجزائية، حتى لو ارتكب جريمة القتل في حالة الجرم المشهود، وحتى لو كان فعله الجرمي مقصودا. وليس امام الدولة المعتمد لديها (المضيفة) سوى ان تطلب من دولته التنازل عن حصانة هذا الديبلوماسي او تطلب اليها محاكمته امام محاكمها. اما في القضايا المتعلقة بالقضاء المدني والاداري، فالحصانة تبقى مطلقة الا اذا كان موضوع الدعوى المدنية او الادارية افعالا او أموالا لا تتعلق بوظيفة الديبلوماسي في بعثته، ولا علاقة للبعثة فيها بل قام بها من اجل مصالحه الشخصية”.
تبقى الاشارة الى ان الديبلوماسي لا يملك الحق في التنازل عن حصانته القضائية. ولا يحق له المثول امام المحاكم المحلية في الدولة المعتمد لديها (المضيفة) من دون الحصول على موافقة دولته. حتى لو تنازلت دولة الديبلوماسي عن حصانته القضائية وصدر الحكم ضده في الدولة المضيفة، فلا يمكن تنفيذ الحكم ضده الا بتنازل جديد من دولته يسمى التنازل عن حصانة التنفيذ. وهذا ما نصت عليه المادتان 31 و32 من اتفاق فيينا.