“مصدر دبلوماسي”
يعيد موقع “مصدر دبلوماسي” نشر هذه المقابلة مع الروائي الجزائري واسيني الأعرج التي نشرها موقع “بوسطجي”، هنا الرابط الأساسي للمقابلة:
واسيني الأعرج من أهمّ الوجوه الروائية المعاصرة، سواء في الجزائر أو في العالم العربي، يشغل اليوم منصب أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، على خلاف الجيل التأسيسي الذي سبقه، تنتمي أعمال واسيني، الذي يكتب باللغتين العربية والفرنسية، إلى المدرسة الجديدة التي لا تستقر على شكل واحد وثابت، بل تبحث دائمًا عن سبلها التعبيرية الجديدة والحية بالعمل الجاد على اللغة وهز يقينياتها.
إن اللغة بهذا المعنى، ليست معطى جاهزًا ومستقرًا ولكنها بحث دائم ومستمر… بين لغة صوفية، وتيّار واقعي، كان موسم هجرة واسيني إلى الرواية حيث قدّم للمدوّنة العربية أكثر من عشرين رواية.
استضفنا واسيني الأعرج في هذا الحوار، وتناولنا فيه جدليّة الموت والإبداع. حدّثنا بحرقة عن العشرية السوداء، عن فترة السريّة التي عاشها ومحاولة اغتياله، عن مقتل المبدعين والمثقفين الجزائريين.
نرحّب بحضورك أستاذ واسيني، ونشكرك على ذلك، بدايةً، أنت جامعي وروائي، كيف تجمع بين المجالين؟
في الحقيقة كل ما يربطني بالجامعة هو أنني أستاذ محاضر، خرجت من فرق البحث العلمية، ولم تعد لي إصدارات علمية أو نقدية، عن نفسي، الرواية قدّمت لي الكثير، سواء ماديًا أو معنويًا. حلمي الآن هو مغادرة الجامعة نهائيًا والتفرّغ للأدب، جامعة السوربون تفاعلت مع طموحي بكلّ ودّ واحترام وتوفير ساعات محدودة، من أجل الكتابة.
دائمًا ما أقدّم نفسي كروائي وكاتب، وعملي كجامعي هو وسيلة عيش براتب معقول، ممّا يقدّم لي الحرية للكتابة دون توجّس أو مخاوف. رميت البحث العلمي ورائي من أجل الأدب، وكان الأدب في ذلك طموحي من قريتي النائية إلى معقل الحداثة، مسيرة مليئة بالتناقضات والتعقيدات والخيبات، حققّت فيها حلمي وكان فيها الأدب رفيق دربي، أنا ثمرة من الصدف الجميلة.
هل تعتبر كروائي الموت حافزًا للكتابة، وانبعاثاً للإبداع؟
في الحقيقة، الموت هو طبعًا بخلاف فناء الجسد مسألة فكرية وفلسفية، أي إخفاق الإنسان أمام مصيره النهائي. الإنسان، في هذه الرحلة الوجودية، من لحظة ولادته أو تشكّل وعيه، يصبح الموت بالنسبة له قضيّة، يحاول ممارسة النسيان والتحايل أمام الموت كي لا يصبح هاجسًا لديه، لكن في الوقت نفسه يعرف أنّ الحتميّة تقتضي الموت. لذلك يشحذ جميع الوسائل عبثًا من أجل محاربة الموت، رغم أنّه يعي أنّها لن تؤدي إلى شيء، لأنّ لا خيار له، فيعمل على النسيان. ومن بعدها يصبح النسيان وسيلة من وسائل مواجهة الموت، لكن في نظري أعظم حرب ضدّ الموت هي الأدب، لأنّك تكتب على الموت، تروّض الموت من خلال النصّ الأدبي، قد تصبح حافزًا في الكتابة من أجل التأمّل في الموت وتجاوزه. الأدب ضرب من ضروب الخلود، سأموت وأترك أثري، كما ترك الإنسان البدائي نقوشاً على الكهوف، وكما فعل بيكاسو حين خلّد ذكرى قرية حاول فرانكو إبادتها، وهي قرية غارنيكا مستلهمًا في ذلك برسم صورة تحمل اسمها، لقد جسّدوها بأعمالهم وتحدوّا الموت. الكتابة عندها القوّة ذاتها، أنا قدمت لتونس من أجل ندوة حول دون كيشوت وميغيل دي ثيربانتس ونحن نعرف أنّ هذا النصّ نشر منذ أكثر من أربعة قرون، ورغم ذلك نحن نعايش هذا النصّ كأنّه محايث لنا في الحياة، لقد خلّد نفسه بأدبه وجعله شاهدًا عليه.
إذن ترى في الأدب تعبيراً فنيّاً ولو بالمعنى التراجيدي، ضدّ الموت؟
في الحقيقة لا، هي ليست تراجيديا، نحن نتحدّث عن قدر هنا لا يمكن تفاديه، لأنّ الموتَ أمرٌ حتمي. الرجل الذي يفكّر والعقلاني يرى أنّ الحياةَ في حدّ ذاتها تعبيرٌ فنّيّ، لذلك حين تغادر هذه المملكة المسمّاة الحياة، سواء كان الجزاء موجودًا أو غيره، ستكون لحظة تراجيدية، لأنّ الموت حالة تراجيدية، لا تذلّلها إلّا الكتابة.
الإرث الإغريقي الذي نعتدّ به وروائع الأدب العالمي القديم، الذي ما يزال يُتناول اليوم بالنقد والاستشهاد والاستحضار، في غالبيته تراجيدي وملحمي، الأوديسة والإلياذة، يرسم الحروب وأنصاف الآلهة أو الآلهة، شخصيات مثل هيكتور أو أخيل، كلّها شخصيّات داخل نسق تراجيدي، داخل الموت وحوله، لذلك الموت حالة تراجيدية، لكن أمام الفنّ يصبح مجرّد خواء.
كمثقف وروائي ومبدع جزائري في خضم العشرية السوداء، كيف عايشت الألم والإحباط؟ هل كنت ترى في الأدب مجرّد فعل سيزيفي عبثيّ؟
نعم هو عمل سيزيفي، مليء بالألم والشقاوة والخطر، سيزيف كان يحمل الصخرة لتسقط ويعيد الكرّة إلى الأبد، لكن مع الأدب، كان لديّ اليقين أنّ الصخرة ستصل إلى القمّة، مسافة مملوءة بالخطر والموت والقتل، ولكن كان هنالك ذلك اليقين الداخلي بأنّني سأبلغ القمّة، كنت معنيًا بالاغتيال (مستهدفاً) حين تعقّد الوضع الجزائري، لم أكن وحدي مسجّلاً في قائمة الموت، كان كل شخص يفكّر ويكتب معنيًا بالموت في تلك الفترة، كانوا يعتبرون أنني أمثّل خطرًا على سرديّات وأدبيات الإسلاميين، عشت حالة موت مؤقتة، دخلت في السريّة مدّة سنة ونصف، لا أبرح مكان إلاّ لأغادره، وفي تلك العزلة كتبت “سيّدة المقام”. تزامن إنهائي للرواية وإعلان الإسلاميين الحرب على الدولة. يوم أنهيت تلك الرواية وقع تفجير مركز شرطة وقتل رجال الأمن، كان ذلك في بداية التسعينيات، أصبحت أبحث عن دار نشر لمخطوطي، وتعذّر على العديد من الناشرين نشر الرواية… إلى أن حضرت ندوة في ألمانيا مع سلمان رشدي حول الأدب، جاءني طلب من خالد المعالي لنشر الرواية بـ”منشورات الجمل”، كان على استعداد لنشر العمل متحديًا الإسلاميين. يوم اطّلع القرّاء على “سيّدة المقام” عرفوا الوضع الكارثي بالجزائر، ثمّ أصدرت بعدها رواية “ذاكرة الماء”، كان هذا النص يجهد نفسه للإجابة عن بعض مستحيلاته بدون أن تخسر الكتابة شرطها. كتب داخل اليأس والظلمة بالجزائر ومدن أخرى على مدار سنتين من الخوف والفجيعة بدءاً من شتاء 1993، أي منذ ذلك اليوم الممطر جداً، العالق في الحلق كغصة الموت والذي لم تستطع الذاكرة لا هضمه ولا محوه بين دهاليزها ورمادها، وأنهي بالجزائر في سنة 1995، ذات يوم شتوي عاصف على واجهة بحر خال لم يكن به إلا أنا وامرأة من رخام ونوره و ذلك النورس المجنون الذي كان يبحث عن سمكة مستحيلة ضاعت داخل موجة جبلية… الكتاب يتناول مسيرة رجل جعل من كتابه رهان حياته، يكتب كتابًا ويبحث عن ناشر من أجل نشره، ينجو من الموت، وكانت نجاته من الموت حافزًا من أجل إصدار كتب أخرى.
أنا كاتب، لا سلاح لديّ سوى القلم والورقة، أريد أن أكون شاهدًا على عصري، أنا ابن مخاضه، عصر قاسٍ ولكنني سأحاول ترويضه، قد يكون نوعًا من الوعي المبتور، لكن هذا أنا.
نلاحظ في جل روايات واسيني الأعرج على سبيل الذكر “ذاكرة الماء” و”السوناتا” و”رماد الشرق”، “أصابع لوليتا”، انطلاقك من أشخاص ماتوا منذ أعوام وتحاول تخليد ذكراهم بإقحامهم في عالم الرواية، مثل شخصية أبو يوسف التي اغتيلت في “ذاكرة الماء”، هل تقصد إحياء الشخوص وتخليد الذكرى والوفاء أم ترمي إلى مقصد آخر؟
ثمة نوع من الوفاء، لكن شاءت الظروف أن أعايش عصرًا معيّناً، الصدفة تصنع العصور، أنا إبن دوّامتين من الحرب، دوّامة حرب التحرير التي استشهد فيها والدي، ودوّامة العشريّة السوداء، وفي خضم مسلسل القتل والموت الإسلاموي، أصدقاء يموتون يوميًا، يوسف سبتي دخل في رواية “ذاكرة الماء”، الطاهر جعوط وهو روائي وصحفي اغتاله الإسلاميون، عبد القادر علولة، فهؤلاء المبدعون الذين قتلوا، ماتوا لكن قدّموا لنا درسًا، عبد القادر علولة كان رجلًا شعبيًا، وقع اغتياله وهو ذاهب إلى ندوة ثقافية، خسرت الجزائر مسرحيًا عظيمًا، الطاهر جعوط وجد ملقيًا على الطريق وثلاث رصاصات في رأسه، يوسف سبتي اغتيل يوم 28 ديسمبر 1993 بغرفته بالطابق الأول من البناية الكائنة بالمزرعة النموذجية التابعة للمعهد الوطني للفلاحة، حيث وجد في اليوم الموالي مشنوقاً على أرضية الغرفة وسط كتبه ولا يعلم أحد أسباب مقتله إن كان الإسلاميون أو النظام الذي كانت كتاباته لا تعجبه، كان يوسف سبتي يبحث في الإسلاميات والحضارة العربية الإسلامية. أردت تكريمهم وتخليدهم ولو روائيًا، غادرت الجزائر مرّات عدة، وتحدّثت عن جرائم الإسلاميين، عن كتّاب ومبدعين طالتهم يد الغدر، لم أرد منح نفسي بسهولة للموت، غيرت مكان دراسة إبنتي، وهجرت الحياة العامّة، تحايلت على الموت، كنت أكتب بإسم مستعار أحيانًا، الحياة هاجس بالنسبة لي، من أجل فضح من حاولوا قتلي، الكتابة أصبحت هدفًا في حياتي، كتبت الكثير، ونشرت أكثر، في التسعينيات سطع اسمي كروائي في الواجهة الروائية الجزائرية، أردت أن أكون شاهدًا على عصري… عصر ملغوم بالموت، خبزه اليومي القتل والإغتيال، عندما توصد جميع الأبواب، يبقى الأدب والفنّ عصّيًا على النسيان، بإمكانك إبادة قرية غرنيكا ولكن لن تستطيع محو الصورة التي قاوم بها بيكاسو النسيان.
هل كل الموت في روايتك واقعياً؟
في الحقيقة، وظّفت الموت أحيانًا من أجل الرواية، وقد كان رمزيًا مثلما حصل في رواية شرفات بحر الشمال، وهنا أتحدّث عن المنفى، حيث نقل كل طفولته وحياته وكتب عليها، من يكتب يموت رمزيًا، يتخلّص من كل شيء ويبحث عن ذاته من جديد، “في ذاكرة الماء”، الأمر نفسه، قصّة كاتب في صراعه مع موته، في “سيّدة المقام”، البطل ينتحر في النهاية لكن مع ذلك يظلّ خالدًا، أتحدّث عن الموت على الأقل كحقيقة ذهنية.
حين تموت الشخصيات في الواقع تخلّد أم أنّ موتها في الرواية يعطيها أهميّة؟ وأيّهما أكثر إلهامًا للكاتب؟
أحيانًا أخلق شخصيات روائية مبدعة أستلّها من مخيلتي، وأحيانا تكون واقعية، مثلًا، في “أصابع لوليتا” (التي تتحدث عن محنة واغتراب المثقف العربي بشكل عام، والقمع والاضطهاد الذي يتعرض له بسبب الأنظمة الشمولية الدكتاتورية في 1960-1980، والتي حلّت محلّها الحركات الأصولية (1990 إلى الآن، أحيانًا تكون الشخصيّة حقيقية، وأحيانًا وهمية، من أجل تخليد ذكرى عابرة أو متكئًا على المكاسب السابقة من الانكسارات، لا شيء قد يتغير في هذا الزمن، نحن قادمون للعصر الذي تحدّث عنه جورج أورويل..
بين صراع الموت والحياة، أجد أن لديك أيضًا صراعًا بين التفاؤل والتشاؤم، أو ما يعبّر عنه إيميل حبيبي بلفظ “المتشائل”؟
في الحقيقة، أنا متفائل، رغم كل ما حصل، وما قد يحصل ربّما، الحياة كانت شاهدة على ما حدث معي، لكنني على يقين أنّه على الأنقاض والركام تشيَّد القصور، سلبت منّا الحياة معناها، ونحاول أن نعيدها، في رواية “حكاية العربي الأخير” كنت متوجّسًا قليلًا، في رواية “العربي الأخير” ما يحدث في سوريا، في اليمن، في ليبيا والعراق، ليس تشاؤماً لكنّهما الواقع والحقيقة، قضيّة الماء في أثيوبيا والسودان ومصر، والعديد من المشاكل التي تنخر جسد هذه الأوطان، نحن أبناء هذا العصر ونستشرف مشاكله، أقرأ العصر وطبيعة اليومي كيف يتجلّى في هذا الزمن، عندما أقول حروب الماء قائمة، فهذا أمر بديهي في بلدان تعيش استباحة ثرواتها، هذا موت رمزي، لكنك لست مهزومًا ما دمت تقاوم…
أجرى الحوار: أسامة سليم