“مصدر دبلوماسي”
يعيد موقع “مصدر دبلوماسي” نشر هذا التقرير بالتعاون مع موقع “مسكوبيّة”
www.moscobia.com
فلسطين – جهاد الآغا | تشهد فلسطين وبلاد الشام عموماً على حيوية الدور التاريخي للجمعية الإمبراطورية الفلسطينية، التي لم تتخلّ عن دورها ونشاطها منذ مطلع القرن التاسع عشر، على المستويات الثقافية والاجتماعية والدينية. وبرغم مرور السنوات، وتغير المعطيات، وتبدل التفاصيل، ما زالت الجمعية الإمبراطورية محتفظة بحماستها وإسهاماتها وجهودها كما كانت منذ اليوم الأول.
وليس أدل على ماسبق، تدشين السفير الروسي لدى فلسطين حيدر أغانين، في مطلع العام الحالي، النصب التذكاري لرائد الفضاء الروسي الأول يوري غاغارين، في ساحة المهد في وسط مدينة بيت لحم، والذي نفذته “الجمعية الامبراطورية” بالتعاون مع مؤسسة غاغارين الثقافية.
كيف بدأ الحضور الروسي في فلسطين؟
يكشف د. جوزيف زيتون، أمين الوثائق البطريركية في بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، والمؤرخ في التاريخ الكنسي، في حديث إلى “المسكوبية”، عن الأسباب التي دفعت روسيا إلى تأسيس “الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية”، موضحاً أن مطلع القرن التاسع عشر، ولا سيما عهد الإمبراطور الإسكندر الأول، شهد بداية الوجود الروسي في فلسطين، من خلال إقامة أديرة ومستشفيات للحجاج والزوار الروس إلى الأرض المقدسة، وخصوصاً في مدينة القدس. وسعياً لتعزيز هذا التواجد، كلّف قنصل روسيا في بيروت مستشاره بأن يجوب بلاد الشام في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ليرفع له تقريراً في هذا الشأن.
ويضيف زيتون أنه بناء على هذا التقرير، اتخذ المجمع المقدس للكنيسة الروسية قراراً بتكليف الأرشمندريت برفيروس اسبينسكي بالسفر إلى فلسطين ليرفع بدوره تقريراً مفصلاً عن حالة الكنيسة الأرثوذكسية ورعاياها، وقد أكّد الأخير على الضرورة الملحة لنهضة روحية واجتماعية وعلمية، مبيناً الحاجة إلى تأسيس إرسالية روسية كبيرة لبلاد الشام، وقد تمّ تكليفه بأن يكون أول رئيساً لها.
ويوضح زيتون أن روسيا وجدت نفسها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر على هامش الأحداث في المشرق، فقد أضرت حرب القرم بين روسيا والدولة العثمانية 1956، والحرب التالية بينهما 1877- 1878، بالعلاقات بين البلدين الجارين، في حين ازدهرت العلاقات بين الدولة العثمانية وكل من بريطانيا وفرنسا، وهو ما أسهم في تراجع دور الكنيسة الارثوذكسية.
ويشير زيتون إلى أنه بدا، خلال هذه الفترة، وكأن الأرثوذكس محكوم عليهم بالانقسام في دائرة الكرسي الأورشليمي، إذ كان هناك نزاع يوناني – عربي، وصار مثله يوناني- روسي، وأصبح اقتناص الطوائف الكاثوليكية للشبيبة الأرثوذكسية كبير جداً في فلسطين في منتصف القرن التاسع عشر.
وبالرغم من ذلك، فإن الاكليروس اليوناني المهيمن على البطريركية والرهبنة اتهموا الإرسالية الروسية بمساندة العرب الفلسطينيين ضد الوجود اليوناني، وهي من بين مشاكل عديدة، جعلت روسيا تفكر في توحيد جهود مؤسساتها العاملة في فلسطين من خلال تأسيس ” الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية الأرثوذكسية الروسية”.
تأسيسها وأوقافها
ويعود الفضل في تأسيس الجمعية الإمبراطورية إلى المؤرخ والمستشرق نيكولايفتش خيتروف، الذي شغل منصب سكرتير الجمعية، وكان لمقالاته “طائفة الأرثوذكس في الأراضي المقدسة” و”المجموعة الفلسطينية الأرثوذكسية” عام 1881 أثر كبير في موافقة الحكومة الروسية على تأسيس الجمعية بتاريخ 21/5/1882 في مدينة سانت بطرسبورغ .
وأسهمت الجمعية في زيادة أعداد الحجاج الروس بتوفيرها فرص السفر من شبانت بطرسبروغ الى القدس ذهاباً واياباً بمبلغ مالي زهيد، كما شرعت في إنشاء فنادق وخانات لاستقبال الحجاج الروس، وكثفت الدعاية للحج من خلال الوعظ في الكنائس، وعن طريق المجلات والمنشورات.
وتصاعدت أعداد الحجاج، نظراً لهذه الجهود، إذ كان عددهم بين العامين 1888 و1889 حوالي 3000 حاج، ليصل في العام 1900 إلى ستة آلاف. أما في العام 1910 فبلغ عدد الحجاج 15 ألفاً، وكانت غالبيتهم من الفلاحين والنساء المسنات.
ونظمت الجمعية الامبراطورية شؤون الحج لرعاياها، وحرمت رهبنة القبر المقدس اليونانية من استغلال الحجاج، فإن أراد أحد الحجاج تقديم تبرع الى الأماكن المقدسة فعليه تقديمها للجمعية الإمبراطورية، وهي تقدمة للمتبرع لهم.
حتى طعام الحجاج كان تحت إشراف الجمعية الامبراطورية، التي شيدت مطاعم خاصة لهذا الغرض، التي أمّنت كذلك البنية التحتية الخاصة بالحج، كدور المياه وغيرها من المرافق الخدمية.
ويضاف إلى ما سبق أن القدس كانت تعاني في ذلك الوقت من نقص في مياه الشرب، ولذلك فقد عمدت الجمعية الامبراطورية إلى حفر الآبار، فزودت حجاجها بمياه تساوي ضعف ما تستهلكه المدينة المقدسة طوال العام.
وامتلكت الجمعية العديد من الأوقاف، بحسب ما يقول زيتون، مثل بنايات القدس التي ضمت كنيسة الثالوث الأقدس، ودار القنصلية، ودار الترجمات، ودار السفارة الروحية، ومستشفى، بالإضافة إلى دارين للحجاج وللحاجات كل على حدة (مبنى المسكوبية)، وكنيسة مريم المجدلية، وكنيسة أخرى قرب كنيسة القيامة تضم جزءً من سور القدس القديم، علاوة على دير وكنيسة ونزل للحجاج على جبل الزيتون.
كذلك امتلكت الجمعية الامبراطورية عقارات خارج القدس منها بناية الناصرة للحجاج، ودار في حيفا، ومدرسة الرامة للصبيان، ومدرسة بيت جالا للبنات – وفيها مدرسة داخلية ودار للمعلمات – ودير عين كارم، ونزل ودير في الخليل، ونزل في بيت لحم، ونزل في اريحا، وآخر في الرامة.
ازدهارها وتوسعها من فلسطين إلى الشام
بدأت الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية عملها بأهداف خيرية في المقام الأول، ثم علمية وثقافية، حيث شرعت في جمع المعلومات عن الأماكن المقدسة في الشرق ونشرها في روسيا، بالإضافة إلى مساعدة وتشجيع الحجاج الأرثوذكس في الوصول إلى هذه الأماكن، مع تقوية ودعم الطائفة الأرثوذكسية بين السكان المحليين، وتنفيذ الدراسات والأبحاث العلمية حول تاريخ وآثار فلسطين، وتأسيس المدارس، بناء المستشفيات وبيوت الحجاج، فضلاً عن تقديم المساعدات المادية إلى السكان المحليين، والكنائس، والأديرة، ورجال الدين.
الخدمات الطبية
اقتحمت الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية، المجال الطبي لتلافي النقص في خدمات البطريركية، ولتقديم العناية الطبية لتلاميذ مدارسها ولآلاف الحجاج الذين يزورون فلسطين سنوياً، ولحماية الأرثوذكس الفلسطينيين من الإغراءات التي تقدمها المراكز الطبية غير الأرثوذكسية لاعتناق مذاهبها.
وافتتحت الجمعية مستوصفاً في الناصرة عام 1888، ثم في بيت جالا وبيت لحم والقدس. وأهم هذه المراكز كان مستشفى القدس الروسي، الذي كان يقع ضمن مجمع المسكوبية الذي أصبح في ما بعد نواة القدس الغربية التي امتدت خارج الأسوار. وكانت القدرة الاستيعابية للمستشفى 30 مريضاً، لكنها سرعان ما ناهزت 60 سريراً عام 1872، ليصبح بذلك أكبر مستشفى في القدس.
وتبنت الجمعية الإمبراطورية بناء الكنائس وترميمها وتجهيزها بالأثاث المناسب من ميزانياتها الخاصة، وإيصال تبرعات المؤمنين الروس وأغنياهم، إلى الكنائس الرعوية العربية، والكنائس الروسية التي بنيت لذكرى حدث ما أو لتكريم بعض وجهاء الروس، مثل كنيسة القديسة مريم المجدلية في القدس التي بنيت ذكرى لوالدة الإمبراطور ألكسندر الثالث سنة 1888.
وأسست الجمعية 114 مدرسة في سائر بلاد الشام، ولكن عملها توقف مع بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914. وكانت أولى هذه المدارس الروسية في فلسطين هي مدارس المجيدل 1882، وقد تم اختيار هذه القرية لمقاومة النشاط والمد البروتستانتي القوي في المنطقة.
وجعلت الجمعية الامبراطورية مقرها في الناصرة، قلب التبشير اللاتيني والبروتستانتي، وفتحت فيها مدرستين ابتدائيتين وداراً للمعلمين (مدرسة داخلية كبيرة مجانية)، آخر للمعلمات في بيت جالا احدى ضواحي القدس.
وفي وقت لاحق، انتقل مقر الجمعية الى بيروت نتيجة الاتهامات السياسية التي الصقت بمسؤول السيمنار الروسي في القدس لكسندر كزما من جانب رهبنة القبر المقدس، ما أدى الى ملاحقة والي القدس العثماني له، بحسب الوثائق البطريركية التاريخية.
وساهم هذا الانتقال في تكثيف نشاط الجمعية في بلاد الشام، حيث تسلمت مدرسة الآسية للبنات في دمشق عام 1885 لتطوير مناهجها، وساهمت في تأسيس الكلية الأرثوذكسية في حمص (“الغسانية”)، بالإضافة الى افتتاح مدارس في وحمص وحماة واللاذقية، وأخرى في بيروت وجبل لبنان وطرابلس وصور وصيدا ومرجعيون وحاصبيا وجبل الشيخ ووادي العجم، بالإضافة إلى ميتم للبنات في دير سيدة صيدنايا.
وأمام هذا الازدهار، قرر مؤتمر الجمعية المنعقد في موسكو عام 1913 إنشاء جامعة روسية كبرى في بيروت، لكن نشوب الحرب العالمية الأولى، أدى إلى إغلاق كل المدارس الروسية بقرار من السلطات التركية في دائرة بلاد الشام، ثم انتهى وجود هذه الجمعية رسمياً بقيام الثورة في روسيا عام 1917 واستيلاء البلاشفة على السلطة، ليتوقف نشاطها التعليمي والتنويري في فلسطين
والجدير بالذكر أنه بعد صدور القرار العثماني بإغلاق المدارس المسكوبية عام 1914، عقدت الجمعية مؤتمراً في بطرسبورغ حيث قررت وقف النشاط التعليمي حتى انتهاء الحرب في سوريا وفلسطين، وقد تخلت الجمعية لبطريركية انطاكية وسائر المشرق عن مدارسها ومحتوياتها، ولا تزال معظم المدارس حتى الآن في حوزة البطريركية.
الجمعية مازالت حاضرة بقوة
في عام 1918 تغير اسم الجمعية بعد كمون نشاطها للصفر، إلى الجمعية الفلسطينية الروسية. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي 1990 عادت الجمعية الى الواجهة في روسيا بصفتها العلمية. وفي عام 1992 أعيدت التسمية التاريخية وهي “الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية” بناء على قرار رقم N2853-1 الصادر عن مجلس الدوما الأعلى للاتحاد الفدرالي الروسي بتاريخ 25/5/1992، والذي بموجبه تم اعتماد الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية كمنظمة روسية دولية هدفها بالدرجة الأولى مساعدة روسيا في تقوية وتطوير علاقاتها بشعوب الشرق الأوسط في كافة المجالات الدبلوماسية، العلمية، الثقافية، الدينية والاجتماعية.
وخلال الاجتماع الذي أقامه فرع الشبيبة الروسية في الجمعية الامبراطورية الفلسطينية، في موسكو احتفالاً بالذكرى الـ135 لتأسيسها، في شهر شباط الماضي، أكد رئيس الجمعية سيرغي ستيباشين، على الدور الروسي البارز والمستمر في المشرق، موضحاً أن أكثر من ألفي عضو ينشطون في 55 فرعاً للجمعية وخاصة في سوريا ولبنان وفلسطين، ومشدداً على استمرار التركيز على الجهود الإغاثية في سوريا بحسب أولويات الجمعية حالياً.