“مصدر دبلوماسي”- خاص
كان مثيرا عنوان النّدوة التي انعقدت اليوم في أوديتوريوم معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت وهو ” دور الإعلام في مكافحة التطرّف”، مثير لأننا نعيش في زمن أصبح فيه الإعلام في لبنان والعالم العربي جلادا وضحيّة في آن، وفي وقت تسرّب التطرّف الى العقول الإعلامية بشكل لا مثيل له وخصوصا بعد اندلاع الأزمة السورية في 2011.
وما يثير الجاذبية أكثر هي الجهات المنظمة المتمثلة بمعهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدّولية التابع للجامعة الأميركية في بيروت بالتعاون مع سفارة الإمارات العربية المتحدة. أما الحضور فكان عددا من الأكاديميين والإعلاميين والمتخصصين في شؤون “الميديا” الذين انضمّ اليهم القائم بالأعمال السعودي في لبنان وليد البخاري. حدّد المنظّمون جلستين تناولت الأولى موضوع “معا لإعلام ضدّ التطرّف” والثانية “حوار حول مواجهة التطرّف في اللغة والفكر والتواصلي الإجتماعي”.
أما المحاضرون ومعظمهم من الزملاء المعروفين فتميزوا بهوية تنتمي الى مزاج سياسي واحد، ما جعل مداخلاتهم ذي لون واحد أيضا، بعيدين من المشاكسة وتصادم الأفكار التي تواجه يوميا الإعلام المهني والتطرّف. لم نر مثلا إعلاميين من مزاج آخر مختلف، ما جعل الندّوة تتميّز بالمداخلات المسالمة والهادئة بعيدا من الواقع القائم والمتميّز بـ”قتال” حادّ يوميا عبر المواقع الإلكترونية والصحف المتبقية وعبر وسائل التواصل الإجتماعي بين الفكر المتطرّف والإعلام المنحاز والبعيد من الموضوعية.
هذا الإختيار الذي توخّاه المنظمون –ربّما- منعا لأي اشتباك في الأفكار لا يريدونه، لم يمنع إنطلاق أفكار نيرة تميّز بتقديمها أيمن مهنّا مدير مركز سمير قصير ، وأيضا الإعلامي رياض طوق، وكذلك بعض ما قدّمه الصحافي المخضرم راشد فايد، فضلا عن مداخلة قيّمة لأستاذ الدراسات الإسلامية الدكتور رضوان السيد الذي تحدّث بإسهاب عن الوسائل التي اعتمدت في الأعوام الأخيرة لصدّ التطرّف في الإعلام الديني.
وقبل التطرّق الى مضامين هذه المداخلات وخصوصا مداخلتي مهنّا وطوق نشير الى أن سفير الإمارات في لبنان حمد الشامسي ألقى كلمة الإفتتاح ومما جاء فيها:
“في حضرة الاعلام وأهله يكون الحديث أصعب، فالكلمة مسؤولية، والموقف محسوب، وحريّة المتحدث أمام السلطة الرابعة مهما كانت كبيرة إلا أنها تبقى محدودة بإطار المسؤولية الاخلاقية بالدرجة الاولى.
المعادلة ذاتها تنطبق على الإعلام، فالحرية مهما كانت عالية إلا أن سقفها ترسمه أخلاقيات المهنة من جهة، والقوانين التنظيمية في القطاع من جهة أخرى.
لقد عرفنا لبنان ساحة ومنارة للحريات الإعلامية، وللمؤسسات المسؤولة، وللصحافة الرصينة التي انطلقت من بيروت الى دول الجوار والعالم لتنشر الممارسة المهنية الحقيقية.
لسنا هنا لنحاكم أي جهة بتهمة خرق هذه الصورة الزاهية، ولا لنتهم أحداً باستغلال الوضع الصعب للصحافة اللبنانية ليوظفها في خدمة أهداف مشبوهة، بل نحن هنا لنناقش ما هو أهمّ وأعمق.
نتفق جميعاً على ان الجهات المتطرفة سعت ونجحت في تحويل بعض الاعلام الى منصات لترويج أفكار التضليل، واستقطاب الشباب الى منزلقات مؤذية مع كل ما يترتب على ذلك من تداعيات مضرة بالمجتمعات.
ولأننا نؤمن بمسؤولية الاعلام اللبناني عموماً، وبروحية الانفتاح الغالبة عليه، وبعقلية تقبل الآخر السائدة فيه، فقد رأينا من الضرورة أن نلتقي معكم لنتدراس سوياً السبل الكفيلة لجعل الاعلام وسيلة فعّالة في مكافحة التطرف لا أداة من أدواته، ولننظر معاً في كيفية تحصينه حتى لا يتحول مسرحاً من مسارحه”.
وقال الشامسي بأن الإمارات ” تحتفي هذا العام، بالذكرى المئوية لولادة القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، وهو الذي وضع الأسس والركائز الني أتاحت لبلادي أن تصل الى ما وصلت اليه من نجاح على كل المستويات. (…)
أضاف:”لا بد من القول أن التطرف فكر، والإرهاب سلوك، وأن أشكال التطرف إنما تبدأ بفكرة تؤدي إلى استجابة انفعالية يترتب عليها السلوك العنيف، الذي يفضي إلى تبرير استخدام العنف ضد الأبرياء.
ولذلك فإن التصدي للإرهاب بأشكاله كافة يتطلب وضع استراتيجيات شاملة ومتعددة الأطراف ترتكز في جوهرها على الوقاية.
وهنا يبرز دور الاعلام بوصفه الصوت والصورة والرسالة المقروءة التي نتعايش معها في حياتنا اليومية، ومنها ينطلق العلاج الحقيقي لكل أشكال الفكر المتطرف، إذ ليس من المجدي ان تعمل المجتمعات على مكافحة الإرهاب من دون العمل في الأساس على اجتثاث الفكر الكامن وراءه”.
الى كلمة لمدير الأبحاث في معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور ياسين ناصر.
نكتفي في هذه التغطية بنشر كلمتي المدير التنفيذي لمؤسسة سمير قصير أيمن مهنا، وكلمة الإعلامي رياض طوق علما بأن الإعلامي نديم قطيش تحدث في مداخلة عن التطرف في وسائل الإعلام الإجتماعي، وتطرق استاذ علوم اللغة والتواصل الدكتور نادر سراج الى لغة التطرف في الإعلام، وتحدث الكاتب والصحافي راشد فايد عن اخلاقيات المهنة والحرفة الإعلامية. ولعلّ أبرز ما قاله فايد بأن ” المقاومة لا تصلح إلا على الحدود وهي لمواجهة الإحتلال وهي لا تعود مقاومة حي تتوجه الى الداخل بسلاحها الموجود، حتى لو لم تستخدمه. واشار الى أنه لا يمكن الوصول الى مدوّنة سلوك طالما يوجد طرف يستقوي على الآخرين بما يملك ولا يملكون (…).
في حين تحدث الدكتور رضوان السيد عن الإعلام الديني ومواجهة التطرّف وابرز ما قامت به دار الفتوى في مجال مكافحة التطرف في أوساط رجال الدين ومعلّمي الدين في المدارس الرسمية والخاصة.
وأبرزها: إقامة زهاء العشرين ورشة عمل تدريبية في بيروت والبقاع لمئتين وخمسين شيخا من الخطباء والأئمّة والمدرّسين للتدرّب على الحوار ومخاطبة جماهير المصلّين والطلاب والتلامذة. وخلال ذلك أرسلت دار الفتوى عشرة شيوخ الى معهد تدريب الأئمة بالأردن في دورات لثلاثة اشهر. أما معلمو المدارس وعددهم زهاء 3 آلاف من كل لبنان فانعقدت لهم ست دورات في بيروت والمحافظات، شارك فيها خبراء في التربية وعلمء دين وباحثون اجتماعيون من لبنان والخارج (…)
مهنّا وثقافة قبول الآخر
قال المدير التنفيذي لمؤسسة سمير قصير أيمن مهنّا :”بغض النظر عن تعدد التعريفات لكلمة “الإرهاب”، لا شك أن المشترك بين كل التفسيرات هو نية مرتكبي الأعمال العنيفة إلى إثارة الذعر ونشر الخوف للتأثير على القرار السياسي وعلى معنويات الرأي العام. ومن هنا يظهر دور الإعلام كوسيلة لنشر الخبر والرسالة والفكرة. فدون نشر، لا يؤدي العمل العنيف غرضه في بث الذعر.
لذلك، ممكن الحديث عن دور للإعلام في مواجهة الإرهاب، والفكر المتطرّف الذي يغذيه ويبرره.
من البديهي أن الاعتبار الأول الذي يتبادر إلى ذهننا هو البعد المتعلق بأخلاقيات العمل الصحافي لدى تغطية العمل الإرهابي. كتب الكثير عن هذا الموضوع: عدم بث صور الضحايا والمصابين؛ التأكد من المعلومات؛ عدم إعاقة عمل المسعفين والمحققين؛ عدم بث ما يمكن أن يشكل خطراً على حياة أشخاص آخرين… وغيرها من المعايير المهنية والأخلاقية. لذا، لن أستفيض في هذا الشق، ومعنا إعلاميين بارزين.
سأركّز على نتائج دراسات قام بها مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية “سكايز” في مؤسسة سمير قصير في السنوات الثلاث الاخيرة.
ابتداءً من عام 2014، ولا سيما مع الاستخدام المتطوّر للصورة ولوسائل التواصل الاجتماعي من قبل داعش، تنامى الاهتمام الدولي بمواجهة التطرّف العنيف، أو ما عرف بالإنكليزية باحرف CVE أي Countering Violent Extremism. واستخدم البعض كلمة Preventing بدل Countering، أي تدارك أو الوقاية من، من خلال عبارة PVE. وقد صرفت ميزانيات ضخمة في حملات تواصل وإعلام في هذا الإطار. وصار أسهل طريق للمؤسسات غير الحكومية للحصول على تمويل، زعم أنها تقوم بمشاريع CVE، جاعلة هذا الأحرف الثلاثة مفتاحاً للتمويل. مئات الملايين صرفت، آلاف البرامج أطلقت، لا سيما على مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضاً عبر وسائل الإعلام التقليدية، دون دراسة معمقة لمدى تأثير هذه الحملات على الرأي العام عموماً، وعلى أشخاص معرضين أن يقتنعوا بالأفكار المتطرفة.
لهذا السبب، أطلقنا عام 2015 مشروع “تلقّي الرسائل المتطرفة والتفاعل معها”.
معظم الدراسات حول استراتيجيات داعش في التواصل والاعلام تعتمد على آراء خبراء وقادة ومقامات روحية ودينية، وشخصيات أكاديمية، ونشطاء محليين، مع إغفال رأي المواطن العادي.
أما دراستنا فتعتمد تقنية مجموعات التركيز مع مواطنين عاديين. هي مشابهة لما تقوم به الحملات الانتخابية لتقييم تأثير رسائلها الإعلامية وشعاراتها، وتماهي الناس معها وموقفهم من المرشحين؛ وتقنية مشابهة لشركات التسويق خلال ترويجها لمنتجاتها وفهمها لتفاعل الناس مع هذه المنتجات.
أردنا:
– تحديد القنوات والوسائل التي يتلقّى من خلالها المواطن (المستهلك الإعلامي) الرسائل (من أين تأتيه المعلومات).
– تحديد مكوّنات وشكل الرسالة التي تزيد من جاذبيتها.
– وتحديد الخصائض المتعلّقة ببيئة المتلقّي ومحيطه التي تجعله أكثر قابلية للاقتناع برسالة معينة.
قمنا بدراستنا في عدد من المناطق اللبنانية: طرابلس، البقاع الغربي، صيدا، والضنية. كما قمنا بالعمل نفسه في تونس العاصمة، وفي الريف التونسي، وكذلك في نيجيريا (العاصمة أبوجا، وبين أبناء المناطق الشمالية).
جمعنا قائمة بأبرز الرسائل المتطرّفة والرسائل البديلة/المضادة. تم تقسيم هذه الرسائل وفقاً للوسائط ووسائل التواصل (راديو، صور، تلفزيون، فايسبوك، تويتر، منشورات، رسوم، منشورات…). اختار خبراؤنا عينة من الرسائل لدراستها ضمن مجموعات التركيز، مع تنويع المواضيع التي تعالجها هذه الرسائل والوسائل التي انتشرت من خلالها.
تضمن دليل النقاش المستخدم خلال مجموعات التركيز الأقسام التالية:
1. عادات المواطنين على صعيد تلقّي الأخبار واستهلاك وسائل الإعلام (مصدارهم الموثوقة، رأيهم بوسائل الإعلام، عوامل الثقة…)
2. عرض مجموعة من الرسائل المتطرّفة والرسائل البديلة/المضادة لمعرفة ما إذا كان المواطنون يعرفون مصدرها، هل سبق وتلقّوا رسائل مشابهة؟ أين؟ كيف؟
3. أسئلة عن تأثير هذه الرسائل عليهم، موقفهم منها شكلاً ومضموناً، وتفاعلهم معها.
وفي لبنان تحديداً، ظهرت النتائج التالية:
– فشل كبير في وصول أبرز الحملات المضادة للتطرف في الوصول إلى الأشخاص العاديين. من يقوم بالانضمام إلى الصفحات على “فايسبوك” هم من المؤيدين للأفكار المعتدلة.
– قنوات بث الأفكار التي تحظى بثقة الفئات المستهدفة هي المجموعات المحلية على “واتساب”.
– موقف رافض لمضمون الرسائل المتطرفة لكن انجذاب كبير لشكل الرسائل المتطرفة على صعيد الإخراج والتصميم وأصوات المغنّين والألحان.
– شعور كبير أن الإسلام (والإسلام السنّي تحديداً) بين سندان داعش التي تعتبر السنّة المعتدلين كفّاراً ومطرقة الإسلاموفوبية التي تريد من كل مسلم، في كل لحظة، أن يثبت بعده عن داعش.
– الرسائل الراديكالية تبقى عالقة في أذهان المتلقّي بسبب شكلها وإخراجها.
– تأييد واسع لمضمون الرسائل المضادة/البديلة/المعتدلة.
– نظرة سلبية جداً لشكل الرسائل المعتدلة. تعتبر رتيبة ومملّة. خطابات الأزهر ودار الفتوى والزيتونة (تأييد في المضمون وانتقاد للشكل وطريقة طرح الرسائل).
– أهمية كبيرة جداً لشخصية الذي يوصل الرسالة (المرسل). يمكن للمواطن أن ينتخب زعيم سياسي فاسد، لكن هذا لا يعني أن لهذا الزعيم قدرة على التأثير على موقف المواطن في الشؤون الدينية أو الحياتية. رفض كبير لظاهرة (شيوخ الرانج روفر) الذي يغتنون فجأةً. الناس يريدون قيادات دينية «نظيفة»، شجاعة، تبقى معهم أيام الصعاب.
– الرسائل المعتدلة لا تبث بوتيرة كافية، مقارنة بوتيرة بث الرسائل المتطرّفة.
– التواصل أو الإعلام ليسا سبب التطرّف أو الانخراط في المجموعات المتطرفة، كما ليسا سبباً للاعتدال وللإقلاع عن التفكير المتطرّف. ما يؤدي للتطرف عوامل متعددة، يلعب الإعلام والتواصل، في مرحلة ثانية، دوراً في تثبيت أفكار زرعت عبر وسائل أخرى.
– أكبر تأثير إن للتطرّف أو للإقلاع عنه هي العلاقات المباشرة، وجهاً لوجه، من خلال أشخاص ضمن بيئة المواطنين المستهدفين.
– أهمية عدم إظهار فئة واحدة من المجتمع كأنها متهمة، أو أكثر ميلاً لتصبح إرهابية، مما يفقد مصداقية المبادرات الإعلامية والتنموية التي تندرج في خانة “مواجهة التطرف”.
—
أما اليوم، مع تراجع إنتاج المواد الإعلامية من قبل داعش، هل يمكننا اعتبار أن المهمة أنجزت؟
للأسف، لا زلنا بعيدين عن هذه المرحلة. فمواجهة التطرف لا تكتمل إلا بإعلاء القيم البديلة: قيم الحرية، والتعددية. فهل يقوم إعلامنا بهذا الدور؟
قمنا بدراسة ثانية بالتعاون مع مؤسسة “أديان”، ضمن برنامج نسيج، لدراسة كيف يغطي الاعلام في لبنان وسوريا والعراق، أعطت نتائج مخيبة للآمال.
لعل مسألة إدارة التنوّع أصبحت من أهم الإشكاليات السياسية التي تواجهها كل المجتمعات حول العالم. لم تعد المجتمعات ذات اللون الإثني، الثقافي، أم الديني الواحد ممكنة، في ظل اختلاط السكّان لدوافع اقتصادية مع انتقال مراكز الإنتاج، أم بسبب النزاعات الجغرافية والهوياتية، أو – في السنوات الأخيرة – بسبب التغيّر المناخي والتصحّر.
استطاعت الدول التي رُسمت حدودها وفقاً للمصالح الدولية في بدايات القرن العشرين، والتي تضم مجموعات تحمل تقاليد ثقافية وإثنية ودينية مختلفة، أن تدير مسألة التنوّع لعقود طويلة من خلال اليد الحديدية، والدكتاتوريات، وفرض إيديولوجية قومية، ولو بقوة السلاح. إلاّ أنّ التحولات في مجال التواصل والأنماط الاجتماعية جعلت من هذا النوع من الحكم عاجزاً عن قمع عطش الناس للحرية والتعبير عن الخصوصيات.
واليوم، إشكالية إدارة التنوّع تطال أيضاً الديمقراطيات العريقة. ففشل سياسات اندماج المجموعات ذات الأصول الأجنبية، لا سيما تلك التي وصلت خلال مراحل النمو الاقتصادي والصناعي بين 1945 و1973، أو تلك التي وصلت حديثاً مع موجات النزوح واللجوء، يؤدي إلى تحديات جوهرية في وجه قيم الانفتاح والمساواة واحترام الحقوق، التي بنيت الكثير من المجتمعات الغربية على أساسها.
في هذا الإطار، يجد الإعلام نفسه أمام عدد من الأسئلة، والتي قد تغيّر دوره في السنوات المقبلة:
– إلى أي مدى يعكس الإعلام صورة عن المجتمعات، على ما هي عليه حقيقةً أم أنه يعكس فقط التيارات والمسارات الأكثر انتشاراً؟
– كيف يمكن إبراز الاختلافات والخصوصيات دون التشجيع على التقوقع ضمن مجموعات هوياتية والمساهمة في الانقسامات؟
– هل دور الإعلام نقل الأحداث أم المساهمة الفاعلة في بناء رؤية معينة للمجتمع؟
– هل المعايير الصحفية المهنية كافية لمواجهة خطاب الكراهية والرسائل المؤججة للتوترات الطائفية؟
إن هذه الأسئلة تطرح نفسها في كل مكان؛ في الولايات المتحدة وفي أوروبا، في روسيا وعلى القارة الأفريقية، وبشكل خاص، في المشرق، حيث ارتبطت الهويات، لا سيما الدينية منها – عن حق أو عن باطل – بالكثير من النزاعات. النزاع العربي-الإسرائيلي، الحرب الأهلية اللبنانية، المسألة الكردية في العراق وسوريا، الحرب الأهلية في العراق، نشوء “داعش”، تدخل القوى الإقليمية ذات الصبغة الطائفية – إيران والمملكة العربية السعودية تحديداً – والحرب في سوريا… لقد شكّلت الهوية الدينية والمذهبية والثقافية والإثنية العدسة التي قُرأت من خلالها كل هذه النزاعات لغاية الآن.
أوّلاً، أعدَّ الباحثون بداية عام 2017 من قائمة رئيسية بالكلمات المفتاحية والأخرى المُلحَقة التي تمّ جمعها حول موضوع الأديان، والتنوُّع الإثني والثقافي والديني وكذلك حول إدارة التنوُّع في المجال العام. وتألّفت القائمة من 183 كلمة مفتاحية تتعلّق بالموضوع الرئيسي للبحث. وقمنا بجمع مقالات وتقارير تحتوي على هذه الكلمات وجرى تحليلها، لمعرفة ما إذا “الآخر” يظهر كمصدر غني أم مصدر تهديد. وتم تحديد ما إذا كانت المقالات والتقارير تظهر وجهة نظر واحدة أم وجات نظر متعددة في متنها.
في لبنان وضمن الإطار الزمني لهذه الدراسة، تتلخّص الطريقة التي تنتهجها وسائل الإعلام في لبنان في تناول التنوُّع وكيف تُصوِّره على النحو التالي: نصفها يصوّر الآخر كمصدر غنى والنصف الآخر كمصدر تهديد.
ومن بين الاستنتاجات الرئيسية، هو أنّه حتى لو أظهرت وسائلُ الإعلام اللبنانية التنوُّعَ، وذكرت معظم المجموعات الثقافية والدينية المتنوّعة الموجودة في لبنان، فإنّ جميع تلك المجموعات يتم تناولها في السياق السياسي. وقلّما تُركِّز وسائل الإعلام على التنوُّع من وجهة نظر ثقافية، أو اجتماعية، أو فكرية أو دينية. ويمكن للوضع في لبنان والنقاش الذي دار حول القانون الانتخابي، الذي شكّل محط تركيز في هذه الفترة، أن يوضحا لِما صوّر التنوُّع على أنه في معظمه سياسي، إلا أن هذه الفترة شهدت أيضاً الاحتفال الـ”ما بين ديني” بـ”عيد البشارة”، الذي لا يتم الاحتفال به فقط في تاريخ 25 آذار/مارس، بل طوال الأسبوع الذي يسبق هذا التاريخ في مناطق مختلفة من لبنان، لكنّه لم يحظَ بالاهتمام الكافي في وسائل الإعلام. لذا، نُشجِّع وسائل الإعلام في لبنان على عدم حصر المجموعات الثقافية والدينية المختلفة بالبُعد السياسي بل نحثّها على محاولة تغطية نواحٍ أخرى تتعلّق بتلك المجموعات المتنوّعة.
وتُظهِر الدراسة ترابطاً مباشراً ما بين “الآخر مصدر تهديد” والخطأ المنهجي (سواء من ناحية وجهة النظر، أو المقاربة أو المصطلحات). أي أنه بقدر ما تنتهج الرسالةُ لغةَ المظلومية، بقدر ما تنخفض المهنية عند الإعلاميين. وفي إطار هذه المقالات، من المهم أن نلحظ أنّ الوسائل الإعلامية التي تنشرها تبدو وكأنّها تُمثِّل المواقف السياسية المختلفة بدلاً من الإبلاغ عنها، وهذا يضع دور وسائل الإعلام كسلطة مدنيّة رابعة تراقب وتحاسب السلطات الثلاث الأخرى على المحك.
لم أتطرق لمسألة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، والتي سمحت بالانتشار الأوسع للرسائل المتطرفة.
هناك ورشة عالمية حول إزالة المواد التي تبث رسائل القوى المتطرفة، وإزالة الحسابات. لكن المشكلة لا زالت تكمن في صعوبة التعريف (الاختلاف بين الدول)، والتعامل مع مسألة خطاب الكراهية، وعدم وقوع بعض المواد ضمن قواعد سلوك مواقع التواصل الاجتماعي، ودهاء المستخدمين المنتمين إلى الفكر المتطرف، ومشكلة الخوارزميات وإمكانية الاستفادة منها.
ومن هنا أختم بالإضاءة على المشكلة الجوهرية:
في نظرنا، يتم مواجهة التطرف من خلال الفكر النقدي.
الفكر النقدي، والتبعية للقائد لا يلتقيان. التبعية لقائد أفكاره معتدلة لا ينمي الفكر النقدي، ومن هنا لا تسمح بخلق بيئة ذهنية مؤاتية لمواجهة التطرف.
السماح للقوى السياسية والفكرية المحافظة من فرض رقابتها على الحريات وعلى الأعمال الصحافية والفنية، يضعف الفكر النقدي ويرسي نمط الفكر الواحد، ما يسمح بالانزلاق نحو التطرف.
عدم قيام الإعلام بدوره بكشف حقيقي لحالات الفساد التي تضعف من مصداقية الأجهزة الرسمية، وغالباً أيضاً بعض المؤسسات الدينية، وكذلك عدم الالتزام بالقواعد المهنية في تغطية أعمال الأجهزة الامنية، يؤدي إلى نشر سردية أن الإعلام لا يكترث إلا لما يريده النافذون، ما يعمّق الهوة التي يستغلها المتطرفون.
عدم الكشف عن ما يحصل في السجون العربية، إغفال مناطق كاملة عن التغطية الإعلامية، لا يساهم إلى في تعميق هذه الهوة أيضاً.
قيام سلطات بقمع الفكر المعارض، لدرجات تصل إلى حد الاغتيال، يعطي ضوءاً أخضر للمتطرفين بالقيام بأعمال مماثلة.
اليوم، قوى التطرّف تعتمد استراتيجيات متعددة، ومنها الابتزاز الدائم للسلطات: إجبارها على اعتماد نهجها وفكرها وقيمها، عبر تهديدها بالانزلاق نحو العنف، يدفع السردية الرسمية، “المعتدلة”، على التموضع على نحو خطير، أقرب من الأفكار المتزمتة. لا يكفي أن نرفض العنف لأن نكون معتدلين.
معركتنا ضد التطرف، معركة الاعلام ضد التطرف، هي معركة حرية الاعلام، هي معركة جودة الاعلام.
لن تتحقق في ظل سيطرة المال السياسي على الاعلام. الاعلام المسيّر سياسياً يبث اليوم خطاباً معتدلاً، منفتحاً، ويبث اليوم التالي خطاباً عنيفاً، متطرفاً، وفقاً للهوى السياسي.
لن يلعب الاعلام دوره كاملاً في مواجهة التطرف، إذا تحول إلى أداة تواصل استراتيجي (strategic communications). التواصل الاستراتيجي مهم جداً، وهناك متخصصين في هذا المجال. لكن هذا ليس دور الاعلام. دوره الحقيقة، والاستقصاء، والمساءلة، والتدقيق، وتعزيز الفكر النقدي. أي تقييد لأي من هذه الوظائف لن يفيد إلّا أعداء التعددية.
لن يلعب الاعلام دوره كاملاً في مواجهة التطرف إلا في إطار إرساء أنطمة ديمقراطية، حيث الحقوق والواجبات مكفولة في ظل القانون، وقضاء مستقل، وشفافية المعلومات، وتطبيق القانون على الجميع بتساوٍ وعدل، والقدرة على نقد الحكم، حيث الحرية لا يحدها إلى خطر الحد من حرية الآخر، وليس، كما يسعى البعض لفرض منطق جديد، يجعل من معتقد الآخر حدوداً لحريتي”.
رياض طوق متحدثا عن الإعلام المتطرف العنيف
وجاء في كلمة الإعلامي رياض طوق:
إذا كان عنوان اللقاء اليوم هو دور الاعلام في مكافحة التطرّف، فالعنوان الذي اخترناه هو الاعلام المتطرّف العنيف أي دور الاعلام في صناعة التطرّف وفي تغذية العنف.
شرّفتني سفارة الامارات العربية المتحدة على رأسها سعادةالدكتور حمد الشامسي وطبعاً معهد دولة الرئيس عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية بالمشاركة في هذه الندوةا لتي وجب أن يكون موضوعها قد
عولج لسنوات خلت، لأنني لن أخفي أنني في اطار عملي الذي ارتبط بقضايا ارهاب وتطرّف(طبعاً أتحدث عن عملي في
الاعلام والصحافة الاستقصائية) لطالما اكتشفت أن للاعلام والاعلام المرئي خاصّة الدور
السلبي الاكبر في تغذية التطرّف لا سيما في منطقتنا. في الشرق عموماً والعالم العربي خصوصاً.
بعد عام 2003 أي منذ تاريخ سقوط نظام الرئيس العراقي صدّام حسين بدأت تظهر ملامح اشتباك سياسي- طائفي- مذهبي في المنطقة لا سيما من بعد دخول العامل الايراني عل ىالخارطة السياسية العربية، فتحول الاشتباك من فارسي- عربي الى سنّي شيعي ثمّ الى اسلامي- مسيحي واسلامي- غرب يبعد ولوج التنظيمات المتطرّفة الى عمق تركيبة المجتمعات العربية بعد الحرب السورية.
اعلام داعش:
التجلّي الأبرز لظاهرة الاعلام المتطرّف بدأ مع تنظيم داعش المتطرّف الذي كسر كل القواعد في البثّ والنشر. فبالرغم من العنف الذي رافق التحولات في العراق ايام أبو مصعب الزرقاوي الذي تمكّن من ان يكون الاول في العالم الذي صوّر عمليات قتل مباشرة، الا ان وسائل الإعلام كانت هي المتحكّمة بالمواد في عدم نشرها أم لا. الا ان داعش التي تعاظم نفوذها مع فورة التكنولوجيا فأصبح لها قنوات خاصة مكّنتها من نشر كل انواع الفظائع التي ارتكبتها.
طبعاً الدعاية التي تعمّدها التنظيم في نشر ثقافة العنف واظهار نفسه على انه قاتل من غير رحمة كان الهدف منها نشر الرعبفي قلوب الجميع وهذا ما مكّنه
من احتلال أكبر قدر ممكن من المدن والقرى من دون أية مقاومة. (على فكرة) طبعاً هذه الدعاية ليست بجديدة عند التنظيمات المجرمة وان كان داعش قد استفادمن الاعلام المتوافر للجميع. وهو الاسلوب نفسه الذي استعملته عصابات الهاغانا الصهيونية لاحتلال فلسطين. فكانوا يمعنون في القتل والاجرام لدرجة انهم عند احتلال كل قرية كان سكانا لقرية المجاورة يهربون لمجرّد ذكر اسم الهاغانا. وهكذا داعش كان اسم تنظيمه كفيل باخلاء كل الاراضي له لمجرّد ذكر اسمه، وليس بفضل اعلامه وحده،
بل بفضلنا كلنا ولفضل اعلامنا العربي. أيها السادة انا اقولها بثقة بأن الاعلام كان أحد الاسباب الاساسية التي أسقطت العراق في يد داعش ومكّن بضع مئات من المسلّحين من احتلال نسبة 40% من ارض العراق في الموصل والانبار وصلاح الدين من دون اي مقاومة تذكر/ لأنّ السمعة المتوحشة للتنظيم كانت قد سبقته. (طبعاً أقول اننا أسهمنا بذلك ولكن الدافع الاساسي لانضمام بعض الشباب العراقي الى داعش لم يكن سوى ردّة فعل على المغالاة في الحسّ المذهبي الذي فرضه نوري المالكي وقواته المسلحة)
اعلام داعش لم يكن وحده المسؤول عمّا جرى، بل الاعلام العربي كلّه، فقد كان الصحافيون ووسائل الاعلام تتسابق الى من سيستحصل على مشاهد وصور مجازر داعش. (طبعاً ليس لن يدخل الجميع الى مواقع داعش الالكترونية لمشاهدة عمليات الاعدام والحرق وقطع الرؤوس بل كان يكفي ان يشهد نشرات الاخبار والبرامج على القنوات المحلية للمشاهدة). هذا مردّه الىعدم وجود رقابة ذاتية، عدم وجود ثقافة عدم نشر العنف. وهنانتذكّر جميعاً كيف كانت التلفزيونات العربية عموماً واللبنانية خصوصاً تتسابق للوصول الى ساحة الانفجار لدى وقوع تفجير ارهابي لنقل مشاهد مباشرة مع ما يتضمّن ذلك من أشلاء بشرية للضحايا وجثث متفحمة ودماء متناثرة.
هنا اسمحوا لي عندما اتحدث عن ثقافة عدم نشر العنف، أقولها في زمن انحطاط ثقافي من ابتداءً من رأس الهرم. ففي بعض دول اوروبا قد تجد القوى السياسية تتسابق لأخذ وزارة الثقافةمن نصيبها، اما نحن (واليوم على ابواب تشكيل حكومة فنجد ان من يعاقب او يستبعد قد يحصل على وزارة الثقافة ولا احد يريدها). واسمحوا لي بالمناسبة ان اقول كلمة حقّ بأن وزارتي السعادة والتسامح في الامارات العربية المتحدة هي انجازحضاريّ في منطقتنا فهنيئاً لكم).
بالعودة الى موضوعنا انا قمت بتحقيقات صحافية أجريتها تتعلق بموقوفين بتهم ارهاب واستمعت لبعضهم واطّلعت علىا فادات بعضهم في المحاكم لمست ان الكثيرين منهم تأثر بداعش عبر الاعلام، فمنهم وطبعاً من اصحاب النفوس الضعيفة ومنالمهمّشين اجتماعياً واقتصادياً
رأى في داعش الملجىء والملاذ بسبب الاحتفالية واستعراض القوة التي قدمها داعش من خلال كليبات وفلام قصيرة استعرض فيها قوته ولباسه وعتاده واسلحته ومواكبه السيارة ونحن ساهمنا بذلك. طبعاً هنا لا بدّ من التوضيح بأن اعلام داعش كان موجّهاً أما اعلامنا نحن فكان عفويّ واجتماعيّ ولكنّه صبّ في مصلحة داعش من دون أدنىشكّ.
ولكنّ الاعلام العنيف يتغذى من العنف الموجود في محيطه وهو بدوره ينقل هذا العنف الى الضفّة المقابلة.
فيصبح عندنا تطرّف وتطرف مضادّ. وهذا تماماً ما حصل في العراق، فانّ اعلام داعش اعطى المبرّر للحشد الشعبي العراقيل يتصرف بنفس الوحشية وبدأ بالتقطيع والحرق وباستعمال دعاية قتل مشابهة لدعاية داعش وبتمجيد ثقافة العنف عبر خلق بعض الشخصيات لاثارة الرعب مثل ابو عزرائيل (جعلوه شبيه رامبو) وغيره من الشخصيات.
هنا اسمحوا لي بمقارنة بين اعلامنا العربي وبين اعلام الغرب، ففي تشرين الثاني عام 2015
وقع الاعتداء الارهابي في برج البراجنة في الضاحية الجنوبية فكان اعلامنا ينقل لحظة بلحظة صراخ الاطفال والجثث والاشلاء وقد كون انا واحد الاعلاميين الذي اعادوا بث هذه المشاهد في احدى حلقات برنامجي اللائحةالسوداء على “ام.تي.في” بحيث كنت اربط بين تفجير برج البراجنة واعتداء ارهابي آخر وقع في باريس بعد يوم واحد من اعتداء اضاحية في “ستاد دو باري” و”مسرح باتاكلان”، وبالرغم من وقوع عشرات الضحايا الا
انني عجزت لدى التفتيش في ارشيف الصحافة والتلفزيون عن الاستحصال على مشهد واحد لجثة أو لبقعة دماء. وجل ما استحصلنا عليه هو مشاهد لسيارات الاسعاف والشرطة او لمواطنين يضعون الزهور في اليوم التالي في كان الانفجار.
هذا المشهد طبعاً هو نفسه تكرّر منذ 17 سنة في احداث 11 ايلول، فحتى اللحظة لم نر من
الانفجار سوى الحطام والبرجين يتهاويان، اما الثلاثة آلاف الذين قضوا في الانفجار فسمعناعنهم ورأينا صور بعضهم. الصور قبل ان يقتلوا.
هنا سألت بعض الزملاء العاملين في الصحافتين الفرنسية والاميركية،واستحصلت على بعض الاجوبة: اولاً هناك حرمة الموت ولا يحق لأحد ان يعرض صور لأشخاص من دوناستأذانهم، فكيف اذا هم اموات، ثانياً هناك مشاعر ذويا لضحايامن اقارب واصدقاء ولا داعي لعرض ابنائهم أشلاءمقطّعة، ثالثاً والاهمً وهو ما كان
مدار بحث في جميع وسائلا لاعلام وكليات الاعلام والتواصل في الجامعات. فهم يعتبرون انعرض مشاهد مؤذية قد تولّد
التطرف في النفوس مما يزيد من رغبة البعض في الثأر وفي المعاملة بالمثل اي ما يعني التطرّف وهو موضوع ندوتنا اليوم.
ولكن لا بدّ لي من أن أتحدث عن اعلام من نوع آخر وهو اعلام عنيف في نهاية المطاف، ليس من الناحية العقائدية والدينية، وليس من الناحية العفوية
الاجتماعية كما فعل بعض اعلامنا الذي اتّجه نحو السبق، بل هناك الاعلام الخبيث، وهو لمآرب سياسية ساهم عن سابق تصوّر وتصميم في الترويج لماكينة داعش الاجرامية. وهذا أدّى الى التعمية عن مجازر كثيرةارتكبت، وفي سوريا تحديداً تحت
عنوان القضاء على داعش، فقتل الآلاف من المدنيين بحجّة استئصال الجماعات الارهابية وسط صمت مريب للرأي العام العالمي الذي أصبحت قناعته بأنالضرورات تبيح المحظورات.
العنف الكلامي واللفظي:
هناك موضوع اساسي لا بدّ من التطرق له وهو عدم وجود رقابة على الضيوف الذين يتواجدون على المنابر الاعلامية وليس لهم وظيفة سوى التحريض والشتم، هذه النماذج التي تكاثرت في السنوات الاخيرة أسهمت في بثّ الكراهية في المجتمعات. في السابق كان الضيف السياسي او الاعلامي على الشاشة يلتزم بأصول التخاطب واللياقة في الكلام وكان الصراخ او الشتيمة هو الاستثناء. اليوم اصبحت بعض البرامج الحوارية تكاد لاتستقبل سوى اصحاب الحناجر
الغليظة ممن يمتهنون الشتيمة والصراخ، لظنّهم بأن هذا ما يحقّق نسبة عالية للمشاهدي نويزيد “الرايتينغ” الذي تتنافس عليه المحطات. هنا أصبحت اللغة السوقية ولغة الشارع تسيطر على شاشات التلفزة، ونحن أصبحنا ملزمين بمشاهدة الاشخاص
نفسهم يتنقّلون من برنامج حواري الى آخر. هذا ما يضرّ بالصحة النفسية،
بالاخلاق الاجتماعية وأكثر من كلّ ذلك يساهم في التحريض السياسي والطائفي. من هنا ومن هذا الصرح العريق الذي خرّج أفواج من الاساتذة الكبار في الصحافة والسياسة والفكر والادب والصحافة الذين كانوا في السابق هم الذين يحلّون ضيوفاُ على لبرامج التلفزيونية، من هنا نتمنّى ان تلتزم القنوات بعدم استقبال الشتامين الصارخين الذين يستعملون لغة التخوين والعمالة ويطلقون أشنع الاوصاف بحقّ كل من يخالفهم الرأي.
الاعلام التزام وطني ومسؤولية.
مشكلتنا أيها السادة لا تكمن فقط في الترويج للاعلام المتطرف او ، فالمشكلة تكمن في عدم الالتزام والحسّ بالمسؤولية تجاه قضايا الامن القوميّ. سأعطي بعض الامثلة بموضوع شبكات التجسّس التابعة للاستخبارات
الاسرائيلية العاملة علىا لاراضي اللبنانية، عندما بدأ العمل على تفكيك هذه الشبكات والقاء القبض على العملاء في لبنان سنة 2009 لم تضطرّ قيادة العدوّ الى اجراء الكثير من التحليلات لتعرف مكامن الخلل ومن أين تاتي الخروقات، وجلّ ما فعلته كان قراءة الصحف اللبنانية التي كانت تنشر القرارات الظنية الصادرة عن المحاكم اللبنانيةبتفاصيلها المملّة. وهذا كلّه لأنه ليس هناك تدريب حقيقي للصحافيين ليعرفوا ان الاعلام مسؤولية وهو في أحيان كثيرة
مرتبط بالامن القوميّ لبلدانهم.
العام الماضي تتذكرون جميعاً محاولة اغتيال الفاشلة لأحد كواد رحركة حماس في لبنان الفلسطيني محمد حمدان والتي أدت الىتوقيف بعض العملاء المنفذين واكتشاف هوية ضباط الموساد الذين دخلوا الى لبنان. يومها حاولنا رصد الموقف الاسرائيلي في الاعلام، وصدقاً لم نجد أي رواية تذكر سوى نفي للمتحدث باسم جيش العدوّ ينفي فيه التهم الموجهة لاسرائيل بانها تقف وراء العملية الفاشلة. هذا كله لأنهم
لم يرغبوا باخفاء فشلهم الذي قد ينعكس على امنهم القوميّ.
اما نحن فكنّا في المقابل نتعامل مع قضيّة لا تعدو كونها رواية تبين فيما بعد انها ملفّقة للفنان زياد عيتاني بكثيرمن التسرّع والغباء. لا بل كانت محاضر
التحقيق الأولي تنشر قبل التصديق عليها من قبل المتهم نفسه. هنا طبعاً سيسأل البعض ما هي مسؤولية الصحافي الذين ينشر معلومة في حين ان أصحابالشأن ان كانوا قضاة او أمنيين هم من يتحمل المسؤولية. أنا أقول لا، فنحن أيضاً كاعلاميين مسؤولين ومعنيين وواجبنا
ا لاخلاقيّ والمهني يلزمنا بعدم التعرّض لكرامات الناس أو نتحمّل المسؤولية في الامور المتعلقة بأمننا القوميّ (…).