“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة:
نظّم مركز كارنيغي للشرق الأوسط أخيرا في مركزه في بيروت ندوة غير كلاسيكية بالأفكار التي طرحت فيها حول كيفية حلّ معضلة المجموعات شبه العسكرية في العراق.
الندوة كانت نقاشا لدراسة شاملة عن الموضوع أعدتها “مجموعة الأزمات الدولية” بعنوان المجموعات شبه العسكرية في العراق: تحدّ لإعادة بناء دولة فعالة، وينشر موقع “مصدر دبلوماسي” ملخّصها التنفيذي.
وقد حفل النقاش بكمّ من الأفكار الجديدة وحتى الفريدة من نوعها والتي أجمع الحاضرون على أنه بالإمكان اسقاطها على حالة “حزب الله” في لبنان.
أدارت الندوة مديرة مكتب بيروت وسوريا في صحيفة “الواشنطن بوست” ليز سلاي، وتحدث فيها يزيد الصايغ الباحث الأول في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، وريناد منصور وهو باحث في شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في تشاتام هاوس، وهيكو ويمن وهو مدير برنامج العراق وسوريا ولبنان في مجموعة الأزمات الدولية.
سقوط الدولة الراعية في العراق…كما في لبنان
بدأ ويمن حديثه عن الإحتجاجات الجارية حاليا في الجنوب العراقي، وهي ذي مغزى من حيث الإعتراض الشعبي على ضعف الدولة المركزية في تقديم الخدمات للناس.
وقارن بين الوضع في بيروت وبغداد من حيث الشح في المياه والإنقطاع في الكهرباء بسبب الترهّل الحاصل في الدولة المركزية حيث لا آلية واضحة إلا حول تقاسم السلطة فحسب بينما يغيب الوضوح في الإدارة بلا آلية محاسبة.
وانتقل ويمن للحديث عن الميليشيات العراقية التي هي خارج السلطة معتبرا أن إدخالها ضمن النظام هو تحدّ حقيقي لأنه لا توجد آلية واضحة لكيفية عمل العراق كدولة في ما بعد.
من هو الحشد الشعبي؟
من جهته، أشار ريناد منصور في كلمته الى تمضيته أعواما طويلة في دراسة ظاهرة الحشد الشعبي ( ضمّ عام 2014 متطوعين استجابة لدعوة من المرجع الشيعي آية الله السيستاني لمحاربة داعش ) وهي على عكس ما هو شائع في الإعلام ليست شيعية بحتة بل فيها مكوّنات سنّية ومن الأقليات في العراق.
ولفت الى أنه لا يمكن فصل دور الحشد الشعبي العسكري والأمني عن أدواره السياسية والإقتصادية ذي الفاعلية أيضا ما يقود الى أن الحديث عن مستقبل الحشد لا يمكن أن يتقلص مستقبلا الى الحديث عن جناحه العسكري فحسب بل ثمة جناح سياسي وآخر اقتصادي، الى ذلك فإن بعض مكوناته مدعومة من الغرب.
الدور الإقتصادي للمجموعات المسلحة يتفوق على الدولة!
ولعل الحدث الأبرز هو أن الحشد يوفر أيضا خدمات اقتصادية ومساعدات ولديه قدرة على جني الأموال خارج إطار الحكومة ما يمكّنه من توفير خدمات لا تقدمها الدولة المركزية ومنها مثلا شركة لمعالجة النفايات في البصرة وهو قدّم هذه الخدمة للناس بلا مقابل ما زاد من شرعيته الشعبية.
يشير منصور الذي أوصت الدراسة التي كان ركنها الأساسي بأنه “يتوجب على الحكومة التي سيتمّ تشكيلها بناء على نتائج إنتخابات أيار أن تدمج الحشد الشعبي بشكل كمل في جهاز الدولة”، بأنه ولغاية اليوم ليس لدى الحكومة العراقية سياسة موحّدة حول كيفية الدّمج للحشد وطريقة ممارسته للسلطة، وخصوصا وأنه منافس خطر للدولة.
موقع “حزب الله”
من جهته، وصف يزيد الصايغ الحشد الشعبي بأنه ذراع لإيران وبنظر الغرب فهو يهتم بوجود دولة موحّدة مع جيش موحّد، ووجود الحشد الشعبي يؤدّي عمليا الى حدوث “ثنائية”، وهذا الأمر يحصل في لبنان ايضا حيث بات “حزب الله” أكثر التصاقا بالدولة من جهة، لكنّه في الوقت عينه لاعب خارجها ما يزيد الحديث عن الإستراتيجية الدفاعية في الآونة الأخيرة.
ولا تحدث هذه الظاهرة بحسب الصايغ في لبنان فحسب وإنما في سوريا واليمن وليبيا حيث ميليشيات وقوى منفصلة عن الجيش الشرعي للدولة.
لكنّ الصايغ يلفت الى ان ظاهرة الجيوش الموازية للدولة موجودة في دول عدة في إيران حيث (الحرس الثوري والسعودية حيث الحرس الوطني الخاص بحماية حكم آل سعود وفي السودان وفي سلطنة عمان) وبالتالي ما يحدث في العراق هو مألوف في الدول العربية وليس بسبب دعم إيران لهذا الحشد كما يرى البعض، بل بسبب ضعف الدولة وضعف الهوية الوطنية.
وفي اقتراح لافت قال الصايغ بأن الإعتراف بشرعية الحشد الشعبي وتحويله مثلا الى “حرس وطني” هو أمر جائز وليس خطرا كما يعتقد البعض، شرط أن يتمتّع هذا الحشد بهيكلية وتدريب واضحين وبآلية تمويل وأن يكون جزءا من خطّة دفاعيّة أوسع وتوفير الأموال اللازمة له لتوفير الرواتب والضمانات الصحية لأعضائه”.
ولفت الصايغ الى أن هذه المجموعات والحشد الشعبي من ضمنها باتت موثوقة شعبيا أكثر من الدولة المركزية بسبب أخطائها وضعفها الدفاعي والمالي.
ويعطي الصايغ مثلا عن الحرس الثوري في إيران الموثوق شعبيا أكثر من الحكومة الإيرانية المركزية، فهو يسيطر على الإقتصاد وهذا هو الخطر الذي يجدر التطلّع إليه وليس الخطر الأمني أو العسكري.
ولفت تقديم الصايغ للفكرة الآتية:
لكي تقود السياسة عليك أن تكون لاعبا عسكريا وهذا أمر محتّم لقيادة سياسات بدول ناجحة وهذا أمر يجوز في لبنان وسوريا وذلك لتجنّب الإنزلاق الى دورات عنف”.
الملخص التنفيذي
هنا نص الملخص التنفيذي لدراسة مجموعة الأزمات الدولية
في نهاية العام 2017، عندما أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي النصر على تنظيم الدولة الإسلامية، لم يتوجه بالشكر فقط للقوات المسلحة التابعة للدولة بل أيضاً لجملة من المجموعات المسلحة المستقلة. وتشكل المجموعة الأقوى بين هذه المجموعات، أي وحدات الحشد الشعبي، مظلة تضم نحو 50 مجموعة شبه عسكرية. يستغل الحشد الشعبي وجود منطقة رمادية قانونياً لتوسيع نفوذه في المجالات الأمنية، والسياسية والاقتصادية؛ وبحكم الاستقلال الذي يتمتع به، يعيق الجهود – التي يدعي أنه يدعمها – لبناء دولة فعالة. السؤال هو ما الذي ينبغي فعله حيال هذه المجموعات. بالنظر إلى أن اندماج هذه المجموعات بشكل كامل في القطاع الأمني الرسمي مستحيل سياسياً في الوقت الراهن، فإن الحل يكمن في إزالة نقاط الغموض القانونية التي منعت فصل الجهات العاملة في مجال الأمن عن النشاط السياسي والاقتصادي؛ وتوفير العمل للمقاتلين السابقين العاطلين عن العمل في إعادة البناء؛ والاستمرار بتعزيز قوة المؤسسات الأمنية الرسمية لجعلها أقل اعتماداً على مساعدة المجموعات شبه العسكرية.
بعد أن انتزع تنظيم الدولة الإسلامية مناطق واسعة من العراق من الجيش المتراجع والمنهار والشرطة الاتحادية في حزيران/يونيو 2014، انضم متطوعون – استجابة لدعوة من المرجع الديني الأعلى للشيعة، آية الله العظمى علي السيستاني – إلى المجموعات شبه العسكرية بالعشرات للدفاع عن بغداد، والأماكن المقدسة الشيعية والبلاد بشكل عام. لعب الحشد الشعبي دوراً محورياً في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية وإلحاق الهزيمة به بعد ثلاث سنوات. في هذه الأثناء، انضمت إليه ميليشيات من السكان العرب السنة ومن الأقليات ليصبح لاعباً أمنياً شديد القوة منفصلاً عن الجيش والشرطة الاتحاديين، وبات يتمتع بدعم شعبي واسع في أوساط السكان الشيعة على نحو خاص.
رئيس الوزراء حيدر العبادي، وهو نظرياً القائد العام للقوات المسلحة، لم يتمكن من وضع المجموعات شبه العسكرية تحت سيطرة الدولة واستعادة احتكار الدولة للاستخدام المشروع للقوة. بموجب القانون، الحشد الشعبي جزء من الجهاز الأمني للدولة، لكن يعترف به كوحدة مستقلة تحت مظلة مجلس الأمن الوطني (المدني). كبار القادة السياسيين العراقيين يوظفون قوات حراسة خاصة بهم، ما يفاقم من تقويض احتكار الدولة للعنف المشروع رغم أنهم يقبلون بذلك المبدأ في خطابهم العلني.
لقد أعلن العبادي بشكل متكرر تطلعه لتحقيق الدمج الكامل للمجموعات شبه العسكرية، لكنه لم يقم بإعلان، ناهيك عن تنفيذ، خطة محكمة لفعل ذلك. لقد أصبح من الواضح أن الحشد الشعبي، الذي يستغل سمعته التي استحقها فعلياً كقوة مقاتلة، لن يحل نفسه ببساطة أو يندمج في وزارتي الدفاع والداخلية على المدى القصير. خلال الاحتجاجات الشعبية على سوء تقديم الخدمات في تموز/يوليو 2018، انضمت بعض المجموعات شبه العسكرية إلى قوات الأمن في محاولة لاستعادة السيطرة وحماية النظام السياسي لما بعد عام 2003، كما لو أن ذلك أتى للتأكيد على استمرار الحاجة لوجودها.
تكمن المشكلة في حالة مرضية أعمق، أي في تفكيك الهيكلية الأمنية في العراق بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2003 والفراغ الذي نجم عنه، والذي اندفعت المجموعات غير المسلحة العاملة خارج إطار الدولة لملئه. أفضت هذه الأحداث إلى نشوء حلقة مدمرة. يتعزز استقلال الحشد الشعبي بسبب ضعف الدولة، لكنه هو أيضاً يزيد من ضعف مؤسسات الدولة بتوسعه. يشكل تكاثر المجموعات المسلحة خارج الوزارتين المعنيتين بالأمن التحدي الأكثر خطورة أمام إعادة بناء الدولة العراقية بعد عام 2003. لذلك، وعلى المدى البعيد، لا ينبغي لإصلاح القطاع الأمني أن يهدف فقط إلى دمج الحشد بشكل كامل في الأجهزة الأمنية، بل إلى بناء قدرات وزارتي الدفاع والداخلية لمنع أفراد آخرين ومجموعات أخرى من الحلول محل الحشد.
ما يجعل التحدي أكبر هو أن الحشد الشعبي يعمل في ميدان السياسة كما يعمل في ميدان الأمن. شكل قادة الحشد كتلة انتخابية هي تحالف الفتح، الذي جاء ثانياً في الانتخابات البرلمانية في 12 أيار/مايو. إلا أن مشاركته في السياسة وربما في الحكومة تبقى إشكالية في العراق، وكذلك في المنطقة، حيث ينظر إلى قادة الحشد على أنهم وكلاء لإيران.
لقد حقق الحشد الشعبي مكانة في الميدان الاقتصادي أيضاً، حيث يتنافس مع لاعبين أكثر تقليدية، مثل الدولة، في إعادة الإعمار وتقديم الخدمات للمواطنين. وقد فعل ذلك بشكل خاص في المناطق التي تمت استعادتها من تنظيم الدولة الإسلامية، والتي تعرّض العديد منها لدمار كبير. في حين أنه من المنطقي استخدام المقاتلين بعد أن يتم حل وحداتهم في إعادة البناء، فإن من غير المنطقي السماح للحشد بالسيطرة على القطاع الاقتصادي دون إشراف فعال من الدولة. في الواقع، فإن الحشد يقوم ببناء جملة من المؤسسات الموازية لمؤسسات الدولة.
سيتوجب على الحكومة التي سيتم تشكيلها بناءً على نتائج انتخابات أيار/مايو أن تدمج الحشد الشعبي بشكل كامل في جهاز الدولة. ويمكن أن تتمثل الخطوة الأولى في توضيح حالات الغموض المتعلقة ليس فقط بوضع الحشد بل أيضاً بوضع جهاز مكافحة الإرهاب، الذي ورغم ارتباطه الوثيق بالجيش، فإنه يتمتع أيضاً بالاستقلال القانوني. إضافة إلى ذلك، ينبغي على الحكومة أن تستمر في جهودها الرامية لتعزيز قوة وزارتي الدفاع والداخلية وذلك بعزلهما عن السياسة ووضع سياسات توظيف تستند إلى الجدارة وليس الولاء.
ثمة صراع أكبر يلوح في الأفق؛ فإيران تعتبر الحشد الشعبي بوليصة تأمين ضد عودة دولة عراقية قوية ومعادية لها على حدودها، بدعم من الولايات المتحدة والسعودية، أو دولة يسيطر عليها عدو مثل تنظيم الدولة الإسلامية. ولذلك فإن إدانة الحكومة العراقية لقوات الحشد على أنها تعمل وكيلة لإيران ولا مجال لإصلاحها يمكن أن يحدث أثراً عكسياً. كما أن ذلك غير ضروري. لدى الدولة أدوات أكثر حذاقة بتصرفها. هناك طريقة أفضل للحد من ظاهرة وجود القوات شبه المسلحة تتمثل في جعل الحشد قوة لا حاجة لها من خلال نقل السلطات والقدرات والزيادة في الأعداد إلى المؤسسات الأمنية. ومن شأن هذه المقاربة تعبئة التيارات السياسية العراقية القوية التي تقاوم أصلاً اختراق إيران لأجهزة أمن الدولة والمؤسسات الاستخباراتية والعمل على تحجيم النفوذ الإيراني.
يمكن للاعبين الدوليين مساعدة العراق على التعافي من نحو أربعة عقود من الحرب والعقوبات. أولاً، ينبغي أن يطوروا فهماً أكثر دقة للحشد والاعتراف بالدور المهم الذي لعبه في إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية، وهو الدور الذي ما زال يلعبه بدرجة ما. ثم ينبغي عليهم تمويل إعادة الإعمار، وتعزيز قوة المؤسسات التي ترسخ سيادة القانون وأن يدعموا إصلاح القطاع الأمني.
لن يتم التغلب على التحدي الذي يشكله الحشد الشعبي بسهولة؛ فمن المرجح أن يبقى لاعباً عسكرياً، وسياسياً واقتصادياً مهماً في الحقبة المباشرة لما بعد تنظيم الدولة الإسلامية. إلا أن حل المشكلة التي يشكلها للدولة لا يكمن فيه بشكل رئيسي، بل بقدرة وقوة الدولة نفسها، وبمن يقودها.