“مصدر دبلوماسي”:
في إطار أعمال “مؤتمر العرب وإيران نحو مستقبل مشترك من الأمن والإستقرار والتعاون” الذيبدأ أعماله اليوم في فندق “كراون بلازا”، ألقى مستشار المرشد الأعلى في الجمهورية الإسلامية الإيرانية كمال خرازي كلمة سرد فيها فصولا من تاريخ العلاقة العربية الإيرانية (من وجهة نظر إيران بالطبع). تستحق الورقة التي تلقى “مصدر دبلوماسي” نسخة منها المطالعة وخصوصا وأن خرّازي نسف فيها نظرية الهلال الشيعي قائلا بالحرف أنها شعار أثبت بطلانه وموهوم. ودعا أيضا الى حوار يبدأ بين المثقفين العرب والإيرانيين.
في ما يأتي نص كلمة خرازي.
السلام علیکم ورحمة الله وبرکاته
حضرات السیدات والسادة المشارکون فی هذه الندوة الهامة، السلام علیکم ورحمة الله وبرکاته. یسرنی جدا أن أشارک فی الدورة الثانیة لندوة الحوار الایرانی العربی، شاکرا الدعوة التی وجهت لی.
ستقوم الشخصیات والخبراء المحترمون طیلة إنعقاد الجلسات المخصصة فی هذه الندوة، بمناقشة وبحث ضرورة الحوار بین العرب وایران. کما إننی وخلال الوقت القصیر المتاح لی سأحاول الإشارة الی هذا الموضوع من جوانب خاصة وسأتقدم بعدة مقترحات للحوار بین العرب و إیران.
أیها السیدات والسادة
تعلمون جیدا بأن الجذور التاریخیة للعلاقات بین ایران والعرب تعود الی آلاف السنین وهذا ماینبغی التطرق الیه والخوض فیه بالتفصیل فی وقته المناسب. أنا سأشیر فقط الی الفترة التی تلت ظهور الاسلام وقبول الایرانیین لهذا الدین المبین. فمنذ قبول الایرانیین الدین الاسلامی، دخلت العلاقة بین العرب وایران الی منعطف جدید واستطاع الدین الاسلامی المبین أن یجمع الایرانیین والعرب تحت خیمة الأمة الاسلامیة. فالایرانیون الذین کانوا یعیشون مجتمعا طبقیا تقبلوا المساواة بین افراد البشر واستطاع الاسلام أن یخلق تحولا عمیقا فی حیاتهم الاجتماعیة والسیاسیة.
قدّم الایرانیون خدمات کثیرة إلی العرب ولعب علماؤهم دورا مهما فی تنمیة وتطویر العلوم والثقافة والحضارة الاسلامیة ونقلها الی مناطق أخری فی العالم مثل شمال إفریقیا وجنوب أوروبا وشرق أسیا. ومن الملفت بأن تتم تأدیة هذا الدور من خلال اللغة العربیة، وأنهم الی جانب جهودهم فی التعلم العمیق لهذه اللغة والإحاطة بها، قاموا أیضا بتدوین وصیاغة قواعد الصرف والنحو العربی، کما نشروا مؤلفاتهم العلمیة أیضا باللغة العربیة.
ورغم وجود بعض الخلافات فی وجهات النظر، لقد إستمر التعاون بین العرب والایرانیین من أجل تطویر الحضارة الاسلامیة الی عدة قرون. وحتی عندما خرجت إیران من سطوة حکم الخلفاء العباسیین فی بغداد، فإن عمق الأواصر بین ایران والعراق والشامات وجنوب لبنان کان لدرجة، لم یتمکن حتی الخلفاء العثمانیین الحکام علی المنطقة و سائر القوی الاستعماریة مثل بریطانیا وفرنسا من إحداث شرخ فیها.
علی أی حال ففی القرن العشرین وبعد ظهور موجات القومیة العربیة وتنامی القومیة الایرانیة، شهدت أواصر العلاقة بین العرب وایران ضعفا وفتورا، لکن لم یمض کثیرا من الوقت حتی إستطاع إنتصار الثورة الاسلامیة الایرانیة بقیادة الامام الخمینی (رحمة الله علیه) من أن یبدد الغیوم المظلمة، وفی ضوء الشعارات الوحدویة الاسلامیة تم إعادة تکوین علاقات أکثر ترسیخا بین الایرانیین والعرب. فقبل إنتصار الثورة الإسلامیة کانت حکومة الشاه قد إختارت الکیان الاسرائیلی الغاصب حلیفا لها فی المنطقة، حیث کانت ایران خلال حروب عام 1967 المیلادیة توفر الوقود اللازم للطائرات الاسرائیلیة فی حملاتها ضد الدول العربیة وقد أثبتت بذلک عداءها للعرب والفلسطینیین.
إن الثورة الاسلامیة الایرانیة وإستنادا إلی مناهضة الاسلام للظلم، جعلت مقارعة الصهیونیة وإستیفاء حقوق الفلسطینیین وتحریر القدس الشریف علی رأس أولویاتها فی نضالها ضد الظلم، ورغم مضی مایقارب أربعة عقود علی إنتصار الثورة ودفعها التکالیف السیاسیة والاقتصادیة الباهضة، فإنها مستمرة فی دعمها هذا. للأسف إن بعض الزعماء الرجعیین العرب الذین کانوا متخوفین من نفوذ الثورة الاسلامیة، إنتهجوا سبیل المواجهة مع الثورة الاسلامیة الایرانیة وفرضوا حربا لثمان سنوات علی الشعب الایرانی وحاولوا من خلال بث الدعایة المغرضة والمکثفة ضد ایران، نثر بذور العداوة بین الایرانیین والعرب. أو قاموا بمواجهة الثورة الاسلامیة الایرانیة عبر دعم الفکر التکفیری وخلق مجموعات مثل القاعدة وطالبان.
بعد إنتصار ایران فی الحرب المفروضة علیها، إستمرت مؤامرات أعداء الثورة الاسلامیة لکن بأشکال أخری. حیث أنهم شاهدوا الشعب العراقی ورغم خوضه حربا لثمان سنوات ضد ایران، لکنه الان وبعد سقوط صدام، قد عاد إلی علاقاته التاریخیة التی أمضاها لقرون متمادیة مع الایرانیین بمجاورة وتعایش ودی وتعامل بناء. ویوما بعد یوم إستطاعوا تحقیق علاقات أکثر وثاقة وقربا مع الایرانیین حتی بلغ الأمر بأن یطرز الدم الایرانی التراب العراقی دفاعا عن الشعب العراقی أمام جرائم داعش، وهذه بحد ذاتها تعد إحدی الأحداث العجیبة طوال تاریخ العلاقات بین شعبی البلدین.
عندئذ قامت اسرائیل والتی تلقت ضربات موجعة من ایران وقوی المقاومة فی المنطقة، بطرح نظریة الهلال الشیعی و ذلک علی لسان بعض الزعماء العرب وتحول مشروع رهاب ایران (التخویف من ایران) محورا أساسیا فی الدعایة الاسرائیلیة والدول الرجعیة العربیة والغرب بقیادة أمیرکا لإحداث شرخا أکبر بین العرب والایرانیین. فی حین أن ایران الاسلامیة لازالت هی الداعم الأکبر للمناضلین الفلسطینیین الذین هم من السنة و لایوجد شیعیا بینهم. وهذا بحد ذاته یظهر بطلان الشعار المزیف والهلال الشیعی الموهوم.
إن مؤامرة اسرائیل و الزعماء العرب الرجعیین لم تتوقف عند هذا الحد بل دخلت مرحلتها العسکریة فی تشکیل المجامیع التکفیریة فی سوریا والعراق. فهذه المجامیع عبر إستغلال الأجواء السیاسیة الحاصلة إثر الثورات العربیة، ورکوب موجة نضال الشعب السوری السلمی، وکذلک الدعم المالی والعسکری المقدم من السعودیة والامارات وقطر وأمیرکا وإسرائیل، وحتی معالجة جرحاهم فی اسرائیل، إستطاعت التقدم بسرعة وأن تتمکن من إخراج أجزاء واسعة من الأراضی السوریة والعراقیة من سیطرة الحکومات المرکزیة فی العراق و سوریا، حتی بلغ مدی الخطورة الی جدیة سقوط دمشق و بغداد بید الدواعش السفاکین للدماء. ففی مثل هذه الظروف طلبت الحکومات المذکورة المساعدة من ایران، واستطاعت بالتعاون مع ایران منع سقوط دمشق و بغداد.
إن المجامیع التکفیریة ومن خلال ممارساتها اللاإنسانیة، عرضت سمعة ومصداقیة الاسلام و المسلمین فی المنطقة و العالم لتهدید جدی. فالصورة التی قدمها هولاء المرتزقة الی العالم من الاسلام، لیست سوی ایدیولوجیة الحصول علی السلطة من خلال القساوة والقتل والإبادة. إن هذه المجموعة حولت الاسلام النبوی الرحمانی الی منهج عنیف وسفاک للدماء. حیث تترافق صرخة الله أکبر مع قطع رؤوس الأبریاء وحرق البشر حیا وقتل النساء والأطفال.
حضرات السیدات والسادة
لو سقطت سوریا و العراق بالکامل بید هذه المجموعات التکفیریة، لکانت إسرائیل دون أی شک وریبة هی الرابح الأکبر لهذه الفعلة المضادة للثورة والمعادیة لفلسطین والمضادة للعروبة. حیث أن إسرائیل دائما ینتابها الخوف والقلق من تواجد دول عظمی و قویة الی جانبها، وإضعاف الدول الاسلامیة وتقسیمها تعد إحدی إستراتیجیاتها، حیث أنها تعتقد أن أمنها و توسیع هیمنتها متوقف علی تحقیق هذا الموضوع. لذا یجب القبول بهذا الموضوع أن رغم التکالیف والضغوط الباهضة التی تعرضت لها ایران إزاء دعمها للعراق و سوریا، فإن تحمل هذه الضغوط والتکالیف کلها کانت من أجل مواجهة إسرائیل وهیمنة الغرب علی المنطقة ودفاعا عن الدول الاسلامیة.
إننا الیوم للأسف نشاهد تواطوءا جدیدا بین اسرائیل وزعماء العرب ضد الشعب الفلسطینی المظلوم، ویعد تطبیع العلاقات بین الدول العربیه واسرائیل وإعلان القدس الشریف عاصمة لإسرائیل من قبل الإدارة الأمیرکیة من نتائج وتداعیات هذا التواطؤ. إن هذا المخطط الجدید رُسم من أجل إذلال العرب لاسیما الفلسطینیون أکثر فأکثر. وفی حال تحقیق هذه المؤامرة، سیصبح إحتلال إسرائیل للقدس الشریف بأکمله أمرا حتمیا. ویعد التشاور وتبادل وجهات النظر بین المثقفین العرب والایرانیین أمرا ضروریا لمواجهة هذه المؤامرة.
إخوتی و أخواتی
بناءا علی ماتمت الإشارة الیه، السؤال الذی یطرح نقسه هو: ماذا یمکن فعله أمام المؤامرات المستمرة للکیان الصهیونی ومحاولته جعل القضیة الفلسطینیة فی طی النسیان، وفرض هیمنته علی المنطقة والعمل علی إضعاف وتقسیم الدول الإسلامیة، وقتل المدنیین من قبل المجامیع التکفیریة وأخیرا إذلال الشعوب المسلمة فی المنطقة من قبل أمیرکا و إسرائیل؟
سأشیر إلی عدة مقترحات کالتالی :
1- نشر وترویج لرؤیة استراتیجیة تجاه تطورات المنطقة
فبناءا علی الرؤیة الإستراتیجیة یجب الإبتعاد عن إصدار الأحکام المتسرعة المبنیة علی الجوانب العاطفیة للتطورات، والقیام بدراسة عمق الظواهر والعناصر الرئیسیة المقومة لکل حدث، والاهداف اللاعبین الخفیة، والتنبؤ بمآلات التطورات عبر الأسالیب العلمیة. لو کان المتطبعین العرب یمتلکون رؤیة إستراتیجیة تجاه قضایا فلسطین وإسرائیل، ولم ینظروا بتفاؤل وإیجابیة إلی أهداف الغرب وکلامه وممارساته المعلنة فی تشجیع الفلسطینیین بالدخول فی مفاوضات مع اسرائیل، لما ابتلینا بمعاهدات مثل أوسلو وکامب دیفید ومثیلاتها، التی لم تأتی بشیء سوی إهمال حقوق الفلسطینیین وإذلال العرب.
هناک الکثیر من النماذج الدالة علی الرؤیة السطحیة والبعیدة عن الحس الاستراتیجی تجاه قضایا المنطقة (کثیرة جدا) التی ینبغی التدقیق والخوض فیها عند أوانها. فالیوم وبعد مضی عدة سنوات علی النهضة العربیة، والتدخلات التی شهدتها هذه النهضة الشعبیة، أو ظهور المجموعات الارهابیة التکفیریة فی سوریا والعراق ودور اسرائیل وزعماء العرب التابعین للغرب فی إیجاد هذه المجموعات وتقویتها تحت شعار جمیل وهو الدفاع عن النضال السیاسی للشعب، لقد بات بالإمکان تحلیل وتفسیر هذه الأحداث بشکل افضل.
الیوم تظهر المستندات والوثائق الموجودة بوضوح بأن السعودیة عبر دعمها للإنقلاب فی مصر وتدخلها العسکری فی البحرین والعدوان علی الیمن، قامت بحرف مسار الصحوة الاسلامیة عن مسلکها، فی حال أن شعبی البحرین والیمن لم یطمحا الی شیئ سوی المشارکة فی المصیر السیاسی لبلدهما، وأن المصالحة المعقولة والمنطقیة لحکومتی هذین البلدین مع شعبیهما کان بإمکانها أن تفرز نتائج متفاوتة جدا.
کما أن عملیة ضخ الأموال والأسلحة الی سوریا والعراق قد وفرت الظروف اللازمة للمجموعات التکفیریة فی ممارسة القتل المروع للأبریاء وتدمیر البنی التحتیة والمدن والتمهید لتقسیم بلدین کبیرین فی المنطقة وتحقیق مصالح إسرائیل الاستراتیجیة. ممالاشک فیه لو کان العرب یمتلکون رؤیة إستراتیجة حیال تطورات المنطقة وتوقعوا غایة المتدخلین بشکل صحیح، لما إتخذوا مواقفا عاطفیة وآنیة. کان یکفی لهم لو تمعنوا فقط بهذه الحیثیة، بأن کیف أصبحت المملکة العربیة السعودیة التی تعد دولة شمولیة ومعادیة للدیمقراطیة، تُفکّر بنشر وتنمیة الدیمقراطیة فی سوریا.
2- تحدید المحاور الاستراتیجیة للنقاش والحوار
هنالک الکثیر من القضایا التاریخیة أو المستجدة والمحاور التی بإمکانها أن تکون محورا للنقاش والبحث بین ایران والعرب. فالمهم هو التشخیص الصحیح للأولویات والرکائز المؤثرة فی إستقرار المنطقة وأمنها وتطورها. إحدی هذه الأولویات هی ضرورة التعرف إلی العدو. فعلی الایرانیین والعرب الإتفاق أولا علی تحدید أهم المواضیع القابلة للنقاش، للإنطلاق الحوار فیمابینهم. أنا أعتقد بأن أهم المواضیع التی بإمکانها أن تکون منصة إنطلاق للحوار بین العرب و ایران هی کیفیة المواجهة مع الکیان الصهیونی بصفته العدو الرئیسی فی المنطقة. ولیس أمام الایرانیین والعرب سبیل لمواجهة هذا العدو الذی یعد العنصر الرئیسی فی إذلال وإضعاف دول المنطقة وإیجاد الفجوة بینها، سوی التشاور وتبادل وجهات النظر.
فمن البدیهی بأن تکون قضایا أخری مثل الترتیبات الأمنیة الإقلیمیة وإستقرار المنطقة وسکینتها ووحدة أراضی بلدان المنطقة وضرورة التکامل الإقتصادی والثقافی بین ایران والدول العربیة، ضمن المواضیع المهمة الأخری التی یجب مناقشتها والتفاوض حولها فی توقیتها المناسب.
3- بدء الحوار بین المثقفین الایرانیین و العرب
بما أن الماضی یعد نبراسا ینیر طریق المستقبل، فما نتعلمه ونستخلصه من التجارب الماضیة یجب أن یحیدنا من إعادة تکرار الأخطاء الماضیة. فالعرب والایرانیون دفعوا تکالیف باهضة فی العقود الماضیة نتیجة عدم توفر الأجواء الحواریة فی مابینهم. فالحرب المفروضة التی شنّها العراق ضد ایران و الحرب علی الإرهاب التکفیری فی المنطقة، کلفت إیران خسائرا مادیة وبشریة کبیرة. فهذه التجارب یجب أن تدعونا للتأمل والتفکیر وأن تفضی إلی جلوس مثقفی الجانبین علی الطاولة لدراسة وتحلیل التطورات عبر حوار شفاف وصریح والبحث عن حلول لقضایا المنطقة من خلال رؤیة مستقبلیة.
أیها الحضور الکریم
إن بیروت بإمکانها أن تکون حلقة وصل بین العرب والایرانیین وأن تشکل منصة مناسبة لإنطلاق هذا الحوار، لأنها کانت دائما مکانا لتلاقی الارآء والأفکار، وفی نفس الوقت التعایش بین مختلف الأقوام والطوائف والمذاهب. کما أنها تتمتع بمجتمع متنور وصحفی وإعلامی حیوی ودؤوب، وتمتلک الأرضیة اللازمة لبدء هکذا حوار إستراتیجی. فإنطلاق الحوار الایرانی العربی فی مثل هذا الصرح العلمی بإمکانه أن یؤثر علی منطقة واسعة بدءا من شمال إفریقیا وصولا إلی وادی بین النهرین والخلیج الفارسی.
فی الختام أؤکد بأن الجمهوریة الاسلامیة الایرانیة تعتبر تحریر فلسطین والقدس الشریف أهم القضایا الرئیسیة لدی العالم الاسلامی، وأن دعم الحکومات الموجودة فی المنطقة ومکافحة المجامیع الارهابیة والتصدی لزعزعة إستقرار الدول الاسلامیة وتقسیمها یعد من واجباتها، وعلیه تعلن إستعدادها للدخول الجاد فی حوار مع أشقاءها العرب، وتوفیر الأجواء والسبل لحضور ومشارکة النخب والمثقفین الایرانیین فی مثل هذه الإجتماعات.
أشکرکم علی حسن الإصغاء