“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
وجّه الشعب الإيراني إنذارا جدّيا للسلطات الحاكمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية عبر الإحتجاجات الشعبية التي عمّت قرابة الـ40 مدينة وقرية في أنحاء البلد المؤلف من 30 محافظة والتي بدأت في 28 كانون الأول الفائت في مدينة مشهد وهي بحسب مصادر إيرانية متابعة على مشارف النهاية.
للمرة الثانية يختار الشعب الإيراني الإحتجاج في الشارع ضدّ السلطة الحاكمة، فقد تظاهر الإيرانيون للمرة الأولى بمدّ شعبي ملاييني عام 2009 معترضين على نتائج التصويت في الإنتخابات الرئاسية والتي جاءت لمصلحة الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، وقد طعن فيها المرشحان للرئاسة آنذاك رئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي، ورئيس البرلمان السابق مهدي كرّوبي، وهاتان الشخصيتان لا تزالان قيد الإقامة الجبرية منذ ذلك الحين.
إنتهت احتجاجات 2009 باستخدام السلطات الإيرانية قبضة الحديد، وكان هدفها انتخابيا وتميزت بالتخطيط لها وبوجود قيادات تديرها وبمدّ شعبي واسع.
احتجاجات في 40 مدينة
لا تبدو احتجاجات 2018 بهيكليتها الشعبية وبأهدافها وبشكلها شبيهة بما حدث في 2009، لكنّها في الوقت عينه أدّت لغاية الآن الى انقسام أكثر حدّة بين المتشددين الموالين للمرشد الأعلى للثورة السيد علي خامنئي وبين الإصلاحيين وايضا بين رئيس الجمهورية الشيخ حسن روحاني الذي يصفه الإيرانيون بـ”المعتدل” ولكن ليس بالإصلاحي بالرغم من تمايزه في قضايا إجتماعية وثقافية وسياسية عدة عن سياسة الصقور.
وفي قراءة إيرانية محايدة لهذه الإحتجاجات فثمة اختلاف جوهري بينها وبين تلك التي تمت عام 2009:
عمّت هذه الإحتجاجات بمعظمها الأرياف الإيرانية البعيدة وليس المدن الكبرى بالرغم من أنها انطلقت من مدينة مشهد ثاني أكبر المدن الإيرانية وكانت شرارتها تفاقم الصعوبات المعيشية إثر افلاس عدد من المصارف والمؤسسات الإئتمانية حيث خسر الكثير من الإيرانيين لمدّخراتهم. لم تتحرك هذه القرى الصغرى سابقا ومنها في كرمنشاه في محافظة خوزستان على الحدود العراقية، وإيرزا حيث يعيش عدد كبير من الأكراد واللوار والتي شهدت اشتباكات عنيفة أوقعت عددا من القتلى، ولم تشهد أصفهان تظاهرات ضخمة جدّا، لكن التظاهرات عمت مدن صغرى في المحافظة منها قهدريجان وخميني شهر وفولاد شهر و نجف أباد… وفي طهران تشير الأوساط الإيرانية المحايدة التي تحدث اليها موقع “مصدر دبلوماسي” الى أن التظاهرات لم تجمع أكثر من ألفي شخص من أصل 10 ملايين من سكان العاصمة، في حين بلغ عدد المشاركين في تظاهرات طهران عام 2009 ما يقارب الـ 3 ملايين شخص.
وتؤكد الأوساط أن التظاهرات انتهت تقريبا منذ يوم الثلاثاء الفائت وأن الإحصاءات الرسمية لوزارة الداخلية تشير الى مشاركة 50 ألف شخص. لكن بغض النظر عن صحة هذا الرقم، فإن وقوع احتجاجات في أكثر من 40 مدينة في آن واحد أمر لم يسبق له مثيل منذ قيام الثورة الإسلامية.
اختلاط المعيشي بالسياسي
صحيح أن نقطة بداية التظاهرات جاءت بسبب افلاس بعض المصارف الإيرانية واتهامها بالفساد وتحميل الإيرانيين الذين خسروا اموالهم حكومة روحاني المسؤولية مطالبينها بردّ أموالهم كلها وليس جزءا منها فحسب، الى اعتراضات على اداء حاكم المصرف المركزي الإيراني ووصول معدلات البطالة الى 12 في المئة بين الشباب الإيرانيين الذين يشكلون 70 في المئة من الشعب الإيراني الذي يبلغ تعداده قرابة الـ80 مليون، فضلا عن ثورة المتقاعدين الذي لم يقبضوا رواتبهم منذ فترة. لكن هذه المطالب المحددة، واكبتها مطالب أخرى ترجمت هتافات سياسية حادة وذي دلالات أبرزها ضد السياسة الخارجية التوسعية الإيرانية ومنها على سبيل المثال لا الحصر: “لا غزة ولا لبنان روحي فدى إيران”. الى شعارات مؤيدة للشاه السابق محمد رضى بهلوي ومنها :” استقلال حرية جمهورية إيرانية”. وتشير الأوساط المتابعة بأن ثمة علامات استفهام حول بعض هذه الاحتجاجات التي تخللتها هذه الشعارات وخصوصا في حراك مدينة مشهد حيث كانت التظاهرة ضخمة وضمت الآلاف.
يشير البعض في إيران الى أنه تم تخطيط هذه التظاهرة من قبل الأصوليين المناوئين لسياسة حكومة الرئيس حسن روحاني وتحديدا من قبل ممثل قائد الثورة في تلك المحافظة السيد علم الهدى الذي يجاهر بمواقف متشددة ضد سياسات روحاني المتساهلة.
فهو رفض السماح مثلا بتنظيم حفل موسيقي في المدينة بالرغم من ترخيص الحكومة بذلك معتبرا بأن هذه الحفلات هي ضد الهوية المذهبية لإيران، علما بأن صهر السيد علم الهدى هو ابراهيم رئيسي المرشح السابق للإنتخابات الرئاسية.
وقد ردد المتظاهرون في مشهد هتافات حادة منها “الموت لروحاني” وبحسب تحليل الأوساط فإن علم الهدى أطلق التظاهرة لكنه لم يستطع السيطرة على الشعارات وعلى أعداد المشاركين فيها فانزلقت الى هتافات لم تكن بالحسبان.
اعتراضات على السياسة الخارجية
ويبدو بأن الإيرانيين وبسبب الضائقة المعيشية والإقتصادية والتي أدت فيها العقوبات الأميركية دورا كبيرا وخصوصا أنه لم يحصل اي رفع للعقوبات منذ اقرار الإتفاق النووي بل حصل تضييق حاد على المصارف الإيرانية. ضاقوا ذرعا بالسياسة الخارجية التي تكلف خزينة الدولة أموالا طائلة، وهذا العامل استغلته الدول المناوئة لسياسات إيران وخصوصا في الشرق الأوسط. إلا أن الأوساط الإيرانية المحايدة تشير الى أن جزءا لا يستهان به من الشعب الإيراني يؤمن في الوقت عينه بأن “دفع هذه الأموال لا سيما في سوريا ولـ”حزب الله” هو جزء من الإستراتيجية الأمنية وهي ساعدت بإبعاد تنظيم “داعش” الإرهابي وهزيمته في العراق وسوريا، ولو لم تستثمر إيران في محاربة هذا التنظيم وامثاله لكانت “داعش” في شوارع طهران والمدن الأخرى”.
بيد أن المنتقدين يشيرون الى ضرورة أن تهتم الحكومة بالشؤون الداخلية فحسب وان تمتنع عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى.
وتخلص الأوساط الى القول بأن الاحتجاجات الأخيرة عمت مدنا صغرى وليست مطالبها محصورة باسقاط النظام الإسلامي أو اسقاط الحكومة، بل إن جذورها معيشية واجتماعية واقتصادية. ولكن لا يجب التغاضي عن انها تطال أيضا كيفية تعاطي الحكومة في ملفات عدة ومنها السياسة الخارجية.
الخوف من الإنزلاق للنموذج السوري
ولعل ما اسهم في ضمور هذه الإحتجاجات أنها لم تتوسع لتضم كل جمهور الفقراء الإيرانيين ومنهم يعيش في محافظات شديدة الفقر والحرمان كما في محافظة بالوشستان في شرق إيران على الحدود مع باكستان، ومحافظة كرمان وخراسان الجنوبية التي لم تشهد تظاهرات في حين أن الأوضاع المعيشية فيها سيئة جدا.
كما أن هذه الإحتجاجات لم تستطع جذب الطبقة الوسطى بالرغم من عدم رضاها على الأوضاع في البلاد ورفضها للسياسات الإجتماعية ولوضع الحريات، لكنها اعتكفت عن المشاركة في الحراك الأخير بسبب ملاحظتها عدم وجود خطة واضحة لدى المتظاهرين وبرنامج بديل وانزلاق الحراك الى أعمال شغب واسعة النطاق وعنف ضد مراكز ومؤسسات حكومية ورسمية وممتلكات خاصة، وقد بلغت مستويات العنف مرحلة متقدمة بسبب محاولة بعض المحتجين اقتحام مقار حكومية وأمنية ودينية واستفادوا من وجود أسلحة بين ايديهم ما أدى الى وقوع قتلى كانت حصيلتهم شبه النهائية لغاية كتابة هذه السطور 22 قتيلا.
هذا الإنزلاق العنفي هو نقطة جوهرية، إذ أن السواد الأعظم من الشعب الإيراني يطالب بالإصلاح، لكنه يخاف العنف الذي قد يقضي على مقدرات بلده كما حصل في سوريا. أما الطبقة الغنية فلم تشارك ايضا إذ ليست لديها أية رؤية اقتصادية بل تكتفي بالمطالبة بالإنفتاح السياسي والإجتماعي.
يعترف الإيرانيون بأوساطهم المحايدة بأن ما حدث هو انذار حقيقي بوجود أزمة جدية في الداخل سواء بالإقتصاد والإجتماع والحريات وبضرورة معالجتها كي لا يتم استغلالها من الدول المناوئة لإيران وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية. أما عن الإضاءة الإعلامية على حركة “مجاهدي خلق” ونجل شاه ايران رضا بهلوي الذي يعيش في اميركا فتشير الأوساط الى أنه ليس لمجاهدي خلق أي قاعدة شعبية في ايران، وبعد مشاركتها في الثورة الإسلامية وقع خلاف بينها وبين الإمام الخميني ثم استخدمت السلاح والإغتيالات ودعمت الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في حربه ضد ايران في ثمانينيات القرن الفائت ما افقدها أية ثقة داخل المجتمع الإيراني، وقد قدم لها صدام حسين موقعا مهما قريبا من بغداد هو موقع “اشرف” أغلقته لاحقا حكومة نوري المالكي.
وليس للحركة –بحسب الأوساط الإيرانية المحايدة- اي تاثير على المجتمع الإيراني لكن حضورها في أميركا وأوروبا ساعدها على التواجد في المشهد الإعلامي. أما بالنسبة الى رضا بهلوي فإن للعائلة الملكية السابقة وجود شعبي لا يمكن قياسه يتم استغلاله من الدول المناوئة للحكم الإسلامي.
في الخلاصة فإن من راهن من الدول على تدحرج الاحتجاجات في إيران بفعل عامل “الدومينو” فشل بسبب استخدام المحتجين للعنف الذي قوبل أيضا برد عنيف من الشرطة ومن قوات الحرس الثوري التي تدخلت في مدن معينة شهدت اشتباكات في مقار حكومية، لكن ذلك لا يعفي السلطة سواء تلك التي يقودها المرشد الأعلى للثورة السيد علي خامنئي أو التي يقودها الرئيس حسن روحاني من إعادة النظر في السياسات الداخلية التي تجعل إيران هشة أمام اي محاولة استغلال دولي وهو ما يحدث حاليا بعد دعوة الولايات المتحدة الأميركية لعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي للبحث في الإحتجاجات في إيران.
إنه الإنذار الشعبي الثاني لسلطة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وملخصه: إيران أولا.