“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة:
يعيد موقع “مصدر دبلوماسي” نشر هذا التقرير عن السياسة الخارجية لحكومة الرئيس سعد الحريري في ذكرى مرور قرابة العام على تشكيلها، والذي نشرته مجلة “الأمن العام في عددها الخمسين هذا الشهر. ولسوء الصدف أن تتفجر هذه الحكومة باستقالة رئيسها غير الغامضة في 4 تشرين الثاني الحالي من الرياض، حيث سببت هذه الإستقالة أزمة كبيرة بين لبنان والسعودية.
رابط مجلة الأمن العام هو:
http://www.general-security.gov.lb/ar/magazines
فجّر الصراع الإقليمي المحتدم بين السعودية وإيران حكومة الرئيس سعد الحريري الذي قدّم استقالته في 4 الجاري قبيل وقت قصير من إطفاء حكومة “استعادة الثقة” لشمعتها الأولى. ولعلّ عدم تمكّن السلطة السياسية في الأشهر الأخيرة من تنفيذ الإلتزام بالنأي بالنفس والإبتعاد من الخلافات الإقليمية الجوهرية هو الذي زعزع أسس حكومة الحريري، مع العلم بأن مسارها في السنة الأولى لتشكيلها لم يكن يشي بأن الأمور ستنزلق الى هذا الدرك.
أسهم التوافق السياسي المستتب بين رئيسي الجمهورية العماد ميشال عون والحكومة سعد الحريري في “تسهيل” السياسة الخارجية للبنان في حقبة صعبة وشائكة اقليميا ودوليا، وكانت المرّة الاولى التي لم يتمكّن فيها الخارج من اللعب على التناقضات الداخلية في ملف السياسة الخارجية، بسبب التضامن شبه المطلق ونظرا الى العقلانية السياسية التي انتهجها الرئيس سعد الحريري، والتي تجلّت في محطات.
أبرز هذه المحطات تجلى في زيارة الحريري الى الولايات المتحدة الاميركية وعدم تعليقه على كلام الرئيس الاميركي دونالد ترامب، الذي وضع “حزب الله” اللبناني في مصاف “القاعدة” و”داعش”.
وأخيرا سئل الحريري أثناء زيارته الى روما عن موقف حكومته من الخلاف الاميركي الايراني بشأن الإتفاق النووي، فشكّل جوابه ملخصا واقعيا لسياسة حكومته الخارجية، اذ قال:” لبنان بلد صغير جدّا، وانا واجبي كرئيس حكومة لبنان ان أجنّبه اية اخطار، لذلك سأعمل لتجنيبه اية أخطار. إن الموقف القائم اليوم هو بين الولايات المتحدة الاميركية وإيران، فما الذي يقدمه لبنان أو يؤخره في هذا الموضوع؟ يجب علينا الحفاظ على استقرار لبنان، وعلى هذا التوافق القائم في البلد، وان نعرف أن هذا التوافق هو لمصلحة لبنان. إن الموقف الاميركي واضح وصريح في ما يخصّ ايران، ولا علاقة او مساهمة لنا فيه، ويجب أن ننتظر ما الذي سيحصل في الايام القادمة”. اضاف الحريري:” لذلك ارى انه يجب ان نجلس كحكومة وكدولة مع الافرقاء السياسيين الآخرين للبحث في كيفية مقاربته، بالنسبة الي، ان الحفاظ على هذا التوافق الحاصل في لبنان وعلى الاستقرار في البلد هو الاساس”.
مظاهر التناغم في السياسة الخارجية
هذا التناغم والتنسيق بين الرئاستين الاولى والثالثة تظهر في عدم ممارسة اي طرف للحصرية الدستورية، فلم يطلب رئيس الجمهورية من رئيس الحكومة الاكتفاء بمتابعة الشؤون الداخلية وعدم الاجتماع برؤساء دول كالرئيس الاميركي دونالد ترامب والفرنسي إيمانويل ماكرون والروسي فلاديمير بوتين وبالحبر الاعظم البابا فرنسيس، ما يعني ان التوافق سمح بتجاوز الاعراف ولم تحصل اية حساسيات.
بدوره لم يشعر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون باي ضغط داخلي حين زار المملكة العربية السعودية من دون مرافقة رئيس الحكومة السني. وهذا يعني بان الرئيسين تمكنا من تجاوز عقدة النصوص الدستورية بسبب التوافق السياسي وبالرغم من الضوابط التي يضعها الدستور اللبناني في بعض مواده.
وانعكس التوافق حول السياسة الخارجية للبنان اسلوبا جديدا في ادارة الاختلافات الاقليمية والداخلية ذي الابعاد الاقليمية كإدارة العلاقة مع سوريا وملف النزوح والعودة. وبالرغم من التباينات الشكلية النافرة بين موقفي الطرفين حيال العلاقة مع سوريا وإدارة ملف النزوح، فان الحريري لم يفجر الحكومة بعد لقاء وزير الخارجية جبران باسيل ونظيره السوري وليد المعلّم في نيويورك في ايلول الفائت ولم يعترض على كلمة رئيس الجمهورية أمام الجمعية العامة للامم المتحدة، تاركا للمؤسسات الدستورية حرية العمل، فبقي الخلاف منحصرا في وجهات النظر.
وانعكس التفاهم بين عون والحريري أيضا على كيفية مقاربة العلاقة مع الدول الخليجية. اختار عون السعودية وجهة سفر اولى في عهده، ثم استبدل زيارة إيران التي كانت متوقعة في تشرين الاول الفائت بزيارة الكويت، للتأكيد على حرصه على العلاقة مع الدول العربية والخليجية، وللبرهان بان لبنان يمتلك القدرة على قيام سياسة خارجية متوازنة بلا ان تتوتر العلاقة لا مع الخليج ولا مع إيران حرصا منه على مصالح لبنان واللبنانيين. وهذه السياسة المتوازنة ادت اخيرا الى حل مشكلة تعيين سفراء لبنانيين في السعودية والامارات والكويت.
التوافق حول السياسة الخارجية لحكومة الحريري، تجاوزت أيضا “قطوع” تغريدات وزير شؤون الخليج ثامر السبهان ضد “حزب الله”، ثم رد امين عام “حزب الله” السيد حسن نصر الله عليها، وفي الحالات العادية والعهود السابقة كان لحدث من هذا النوع القدرة على تفجير الحكومة، لكن ذلك لم يحصل، ما ادى الى تثبيت ربط النزاع مع “حزب الله”. هكذا تمكنت حكومة الحريري في غضون عام من تجاوز القصف الخليجي الإيراني الدبلوماسي من دون التفريط بالحكومة من جهة ومن دون تبديل الخطاب السياسي الرئاسي من جهة ثانية.
خيارات صعبة وتحديات
لكن بعد مرور عام على تشكيلها، بدت حكومة “استعادة الثقة” برئاسة سعد الحريري امام خيارات صعبة في السياسة الخارجية، برزت يوميا، ووضعت التوافق على محكّ الاختبار الدائم.
وبات السؤال ان كانت ستتمكن بعد مرور عام على الاستمرار في المزاوجة بين السياسة الخارجية للعهد التي فصّلها خطاب القسم للرئيس العماد ميشال عون والتي يمثلها وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل وبين ما ورد في البيان الوزاري لحكومة الحريري والذي صدر في 28 كانون الاول 2016؟ وجاء الجواب سلبيا إثر استقالة الحريري.
مناخ الرئيس الحريري أشار قبل استقالته الى انه “حاول كرئيس للسلطة التنفيذية طيلة عام ايجاد مخارج للبنان-الدولة تحيّده عن الصراع الاقليمي المحتدم في سوريا وفي الشرق الاوسط، لا سيما في الملف السوي والصراع الإيراني- الخليجي”.
ولفتت أوساط الحريري الى أنه في الملف الاخير” لا شك ان هذه المسائل تؤثر على العلاقة السياسية والاستثمار في الخليج، والرئيس الحريري حريص على هذه العلاقة وكل جهوده انكبّت لإزالة الشوائب”. وبرز الاختلاف في وجهات النظر بوضوح حيال إيران وهو أمر لم يكتمه الحريري من خلال ما كان يتم تصديره من مناخات أوساطه المعنية بالشأن الدبلوماسي. طالما اعتبر الحريري بان نقطة الخلاف الدائمة مع ايران وعلى عكس ما هي مع الدول الشقيقة والصديقة تكمن في ان ايران تخصص مساعداتها لمجموعة سياسية وليس للدولة اللبنانية. وكما تجري القاعدة مع سائر الدول التي تعرض على لبنان اية مساعدة (…)” وتبرز اوساط الحريري الدبلوماسية انه في غضون سنة كان توافق دائم حول قضايا حيوية مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والسياسة مع أوروبا و تعدد انجازات ابرزها “الحفاظ عل استمرارية دعم الادارة الأميركية للجيش اللبناني والتمديد للقوات الدولية المؤقتة العاملة في جنوب لبنان “اليونيفيل”، الى جانب حصاد بعض الجولات الدولية ومنها الى فرنسا التي وعدت لبنان بتنظيم 3 مؤتمرات مهمة للاقتصاد والاستقرار اللبناني”.
لم يدخل الحريري في سياسة المغامرات الخارجية، بل اعتمد على العقلانية والاتزان، وبالرغم من الاختلاف في تقييم ملفات اساسية منها العلاقة مع سوريا تمكن الحريري من التنسيق مع وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل تحت سقف شعار يقول بأن مصلحة لبنان هي الاساس وتحييده عن أتون الحروب الدائرة حوله هو الحلّ، اما الخلافات الخارجية الصعبة فأرجئت مرارا وتمّ تخطيها وتاجيل الكلام فيها مثل مشاركة “حزب الله” في الحرب السورية والإستراتيجية الدفاعية.
تمكن الحريري من فرض التوازن في العلاقات اللبنانية مع الخليج ومع إيران، فلم يتخلّ عن عروبة لبنان ولم ينقض العلاقة الاستراتيجية مع ايران.
تحديات الساعة
إنصب الإهتمام في الآونة الاخيرة على ملفات ثلاثة أبرزها محاربة الإرهاب وملف النزوح السوري، وملف العلاقة مع الدولة السورية برئاسة الرئيس بشار الأسد.
في ملفّ الإرهاب، كثف الرئيس الحريري جهوده الخارجية منذ استلامه الحكم وذلك بهدف ابراز اهمية لبنان الاستراتيجية في المنطقة وذلك من خلال التشديد عل ثلاث رسائل أساسية:
– أهمية دور لبنان كجزء لا يتجزأ من التحالف الدولي لمحاربة الارهاب واهمية لبنان بجيشه واجهزته الأمنية في هذا المجال، (تظهر هذا الموقف بوضوح ابان معارك “فجر الجرود” التي قادها الجيش اللبناني ضد تنظيم “داعش”الارهابي، وقبلها اثر معارك “حزب الله” ضد “جبهة النصرة” في جرود راس بعلبك والقاع).
– التشديد على الأصدقاء في المجتمع الدولي على اهمية الحفاظ على السلم والاستقرار في لبنان وتحييده من الصراعات المنطقة”.
في ملفّ النزوح، ركز الحريري على اهمية لبنان كونه يوفر خدمة عامة عالمية باستضافته لمليون ونصف نازح سوري.
حصل تنسيق معمق بين الحريري وباسيل في هذا الملف، ولم يحدث اختلاف جوهري، فطالب الحريري في مؤتمر بروكسيل في نيسان الفائت بعودة النازحين وبمساعدة لبنان لتحمّل أعباء النزوح السوري، وهو جوهر خطاب باسيل وان اختلف اسلوب التعبير.
لكن التباين وقع في كيفية حلّ هذا الملف، هل يكون من خلال الامم المتحدة فحسب ام عبر التنسيق مع نظام الدولة السورية؟ وتظهّر التباين على هامش الاجتماع الاخير للجمعية العامّة للامم المتحدة في نيويورك اثر لقاء جمع وزير الخارجية جبران باسيل ونظيره السوري وليد المعلم، والذي لم يلق قبولا من رئيس الحكومة.
مرّة جديدة اتبع الحريري دبلوماسية الحوار والعودة الى تحييد لبنان والنأي به. فلم تقبل الحكومة بعلاقات مباشرة مع نظام الرئيس الاسد الذي لا يزال نقطة خلاف دولية عميقة، ولكنها قبلت بالعلاقة مع الدولة السورية عبر تعيين سفير للبنان في دمشق في التعيينات الدبلوماسية الأخيرة، ما يعني باللغة الدبلوماسية “التفريق بين النظام والدولة” ويعني تعيين سفير انه توجد علاقات من دولة الى دولة.
هذه الاشكالية في العلاقة بين لبنان وبين النظام والدولة في سوريا، تمددت الى كيفية حل قضية النزوح السوري. ففي حين يبدو النزاع قائما بين جناحين: من يدعو لحل الملف من خلال الامم المتحدة فحسب- في حين ان الاخيرة لا تقبل إلا بعودة آمنة كليا الى سوريا وتطالب لبنان بتمديد استضافته للسوريين- فان اصواتا اخرى في الحكومة ومن بينها وزير الخارجية تريد حل هذا الملف بالتنسيق مع النظام السوري.
في هذا الاطار ترى اصوات دبلوماسية لبنانية متابعة بان حلّ هذا الملف عبر الامم المتحدة فحسب غير كاف لانها تطالب بعودة آمنة ما يستوجب اثباتا بوجود مناطق آمنة، والامر سيان بالنسبة الى حله مع الحكومة السورية بسبب حسابات داخلية سورية لا مجال للخوض فيها. ويقترح دبلوماسيون قيام لبنان باحصاء داخلي حول عدد النازحين، والمناطق التي ينتمون إليها في سوريا، وتلك التي يمكنهم العودة إليها. ولعلّ الكلام اخيرا عن التهيئة لإجتماع دولي بشأن اللاجئين قد يكون حلا معقولا وخصوصا إذا جمع الحكومتين السورية واللبنانية والأمم المتحدة للتداول في هذه المسالة الانسانية الشائكة التي باتت لها تبعات سياسية وديموغرافية واقتصادية واجتماعية وحتى ثقافية.
خرج الرئيس الحريري في غضون عام من عمر حكومته القصير من النظرة الضيقة التي كانت سائدة في السابق في مقاربة ملفات عدة ومنها موضوع عودة المغتربين اللبنانيين الذي بات يناقش في مجلس الوزراء بعيدا من التشنجات وصولا الى إقرار حق هؤلاء بالاقتراع ولو بعد حين وهذا إنجاز يسجّل لحكومته.
يجب لفت النظر الى ان الحكومة المستقيلة وضعت حداً للشغور في السلك الدبلوماسي الذي اعقب عامين ونصف العام من الفراغ الرئاسي وذلك بمجرد قيامها بالتعيينات الدبلوماسية التي ضمت قرابة العشرين سفيرة.
ولعل ما ميّز السياسة الخارجية للحريري ايضا احاطته بمجموعة شابّة تعمل معه ليلا ونهارا وتقدّم صورة عصرية عن لبنان، وخصوصا في وسائل التواصل الإجتماعي “السوشال ميديا” حيث الدبلوماسية باتت تمرّ بالتغريدات أحيانا كثيرة.
وتشير الاوساط المهتمة بالشأن الدبلوماسي في مكتب الحريري الى ان”الرئيس الحريري هو نفسه شاب، وكان من الطبيعي ان يشجع ويُدخل عنصر الشباب في العمل الدبلوماسي وهو آمن بأنه من غير الممكن بناء دولة حديثة بمؤسسات قوية من دون اشراك الشباب في الادارة. فشباب لبنان وشاباته يشكلون عنصرا أساسيا وفعالا في المجتمع، وعدم اخذهم في الاعتبار هو مسار حتمي للفشل”.