“مصدر دبلوماسي”
حضر رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون الجلسة الإفتتاحية للقمة العربية بدورتها الـ28 في البحر الميت (الأردن)، وألقى كلمة بإسم الجمهورية اللبنانية هنا نصّها:
“أصحاب الجلالة والسمو والفخامة والمعالي،
يطيب لي، بداية، أن أتوجّه بالتهنئة الى أخي جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين، على ترؤسه القمّة العربية في دورتها الثامنة والعشرين، متمنياً له التوفيق في هذه المسؤولية التي تكتسب أهمية خاصّة في هذه الظروف الدقيقة التي تجتازها دولنا الشقيقة، شاكراً لجلالته حسن الاستضافة والدقّة في تنظيم القمّة.
كما أشكر سيادة الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز على حسن إدارته لأعمال القمّة العربية السابقة طوال العام الماضي.
أصحاب الجلالة والسمو والفخامة والمعالي،
نلتقي اليوم للتداول بما آلت اليه الأحداث في المنطقة العربية وفي دول الجوار والتفاعلات الدولية التي انبثقت عنها، وما عسانا نفعل وقد بان عجز الجميع في القدرة على حلّها أو الخروج منها حدّاً للخسائر الفادحة التي تزداد يوماً بعد يوم.
لم آتِ إلى هنا ناصحاً ولا مرشداً، إنما جئت متسائلاً، فربّما نجد في وجداننا الإجابات اللازمة. لذا، سأدع وجداني يخاطب وجدانكم، لعلنا نستفيق من كابوس يقضّ مضاجعنا.
كان بودّي أن أشعر اليوم بالسعادة عندما أتوجّه إليكم مخاطباً، وقد أصبحت واحداً منكم. وكم كنت أتمنى أن أقف أمامكم لأحدّثكم عن إنجازاتنا، عن مشاريعنا، عن سبل التعاون بين دول وطننا العربي ومجالات تطويرها.. ولكن، مع الأسف الشديد، إن أصوات الانفجارات ومشاهد القتل تطغى على أي موضوع آخر. لذلك لم أستطع أن أنزع من مخيلتي الغيمة السوداء التي تخيّم على أجوائنا العربية، ولا اللقاءات السابقة التي كانت في كل مرة دون مقررات عملية تزيد خيباتنا خيبةً، وطعم المرارة فينا يزداد مرارةً.
حروب، مجازر، دمار، قتلى،
جرحى، أوجاع وأنين.
من ربح الحرب؟ من خسر الحرب؟ الجميع خاسرون، الجميع قتلى، الجميع جرحى، الجميع متألّمون، الجميع جياع يتسوّلون لقمة العيش.
من أجل من نتقاتل، ومن أجل ماذا نقتل بعضنا البعض؟
أمن أجل تحرير القدس والأراضي العربية المحتلّة؟ أم من أجل الوطن الفلسطيني الموعود وإعادة اللاجئين؟
وهل في هذه الحروب انتصارات وعلى من؟
وفي أي صفحة من صفحات تاريخنا سنسجّل الانتصارات؟
وهل بقيت لنا صفحات بيضاء نكتب عليها، بعدما امتلأت بأسماء ضحايانا واصطبغت بدمائهم؟
ماذا نقول لأهلٍ فقدوا اطفالهم، وماذا سنقول لأطفالٍ خسروا اهلهم؟
وهل سيكون لدينا شيء نقوله لهم؟
هل نحدّثهم عن حاضر يُدمّر أم عن مستقبل يحترق؟
إنّ العاصفة التي ضربت منطقتنا أصابت جميع أوطاننا، منها من تضرّر مباشرة، ومنها من حمل عبء النتائج، ومنها من يقف مترقّباً بحذر وقلق خوفاً من وصول شراراتها اليه. وقد طالت شظاياها جامعة الدول العربية، لا بل ضربتها في الصميم، فشلّت قدراتها وجعلتها تقف عاجزة عن إيجاد الحلول.
لذلك، يمكن القول، وبكلّ ثقة، إنّنا جميعنا معنيون بما يحصل، ولا يمكن أن نبقى بانتظار الحلول تأتينا من الخارج.
إخواني
إن أوائلنا الحكماء، بعد أن ذاقوا مرّ الاستعمار، وعاشوا أهوال الحرب العالمية الثانية، واستباقاً للأخطار التي قد تهدّد كياناتهم، قاموا بتأسيس الجامعة العربية، كي تقينا شر الحروب في ما بيننا، وتحصّن سيادتنا واستقلالنا، وهذا ما نصّت عليه المادة الثانية من ميثاقها إذ حدّدت الغرض من تأسيسها “بتوثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السياسية، تحقيقاً للتعاون بينها وصيانةً لاستقلالها وسيادتها، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها”.
كما أنّ المادة الخامسة قد حرّمت اللجوء الى القوة بين الدول العربية، وشجّعت على التحكيم في ما بينها.
أمّا المادّة الثامنة فهي تفرض على كلّ دولة من الدول المشتركة أن تحترم نظام الحكم القائم في الدول الاخرى المنتسبة إلى الجامعة، وتعتبره حقّاً من حقوقها، وتتعهّد بأن لا تقوم بأيّ عمل يرمي الى تغييره.
إنّ بيانات الاستنكار والإدانة لم تعد كافية، فالجامعة العربية، وهي المؤسسة الجامعة للعرب، وانطلاقاً من مبادئ وأهداف وروحية ميثاقها، وحفاظاً على الدول الاعضاء فيها، وإنقاذاً لإنسانها وسيادتها واستقلالها وثرواتها، عليها أن تستعيد دورها ومهمتها.
ودورها الملحّ اليوم هو في اتخاذ زمام مبادرةٍ فعّالة تستطيع أن تؤثر في مجرى الأحداث، وتوقف حمّامات الدم، وتطفئ النار المستعرة،
دورها اليوم في إعادة لمّ الشمل العربي، وإيجاد الحلول العادلة في الدول الملتهبة، لتحصين الوطن العربي في مواجهة تحدّيات المرحلة ومخاطرها.
أيّها الإخوة،
إنّ لبنان، الذي يسلك درب التعافي، بعد أن بدأت مؤسّساته بالعودة الى مسارها الطبيعي، لا يزال مسكوناً بالقلق والترقّب، ولم يعرف بعد الراحة والاطمئنان، وها هو اليوم يخاطب وجدانكم:
صحيح أنّ شرارة النار المشتعلة حوله لم تصله، ولكنّه يتلقّى النتائج وينوء تحت حملها. نحن نرى البؤس والألم حولنا، ونحاول أن نمدّ يد المساعدة قدر الإمكان. ولكن، عندما يتخطّى المطلوب طاقتنا، نغرق في أعبائه ويصبح خطراً علينا.
منذ اليوم الأول للأحداث المؤلمة في سوريا فتحنا بيوتنا ومدارسنا لاستقبال الهاربين من جحيم الحرب. ولكن، منذ اليوم الأول أيضاً، كنا نحذّر من تفلّت الأمور وخروجها عن السيطرة.
للأسف هذا ما حصل، فلبنان يستضيف اليوم، من سوريين وفلسطينيين، ما يوازي نصف عدد سكانه، والأرقام الى ارتفاع، وتعرفون أن لبنان بطبيعته وضيق أرضه وقلّة موارده هو بلد هجرة وليس بلد استيطان.
إنّ تخفيف بؤس النازحين، وخلاصهم من قساوة هجرتهم القسرية، وتجنيب لبنان التداعيات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية للازدياد المضطرد في الأعداد، لن تكون إلّا من خلال عودتهم الآمنة الى ديارهم.
إخواني،
لطالما كان شرقنا، ووطننا العربي، منبت الحكماء، والعقلاء، والنخب، والرؤيويين.
إنّ المرحلة مصيرية، ولا يمكن أن تواجه إلاّ بأصحاب العقول النيّرة، والقلوب الكبيرة، القادرة على تخطّي التفاصيل لمصلحة الوطن العربي برمّته.
ولبنان، في ما له من علاقات طيّبة مع جميع الدول الشقيقة، يبدي كامل استعداده للمساعدة في إعادة مدّ الجسور، وإحياء لغة الحوار، لأننا، نحن كلبنانيين، عشنا حروباً متنوّعة الأشكال، ولم تنته إلاّ بالحوار.
إنّ خطورة المرحلة تحتّم علينا، أن نقرّر اليوم وقف الحروب بين الإخوة، بجميع أشكالها، العسكرية والمادية والإعلامية والدبلوماسية، والجلوس إلى طاولة الحوار، لتحديد المصالح الحيوية المشروعة لكلّ فريق، واحترامها،
وإلاّ ذهبنا جميعاً عمولة حلّ لم يعد بعيداً، سيفرض علينا.
اللهم إشهد إني بلّغت.
والسلام عليكم.”