“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة:
لم أرث عن والدي صحيفة بل قلما.
ورثت قلما يكتب باللغة العربيّة الأدبيّة المستقاة من روائع كتاب العرب وشعرائهم، طوّعتها أعوام التمرّس والخبرة لتصبح لغة صحافية بحتة تتلاءم مع الأخبار والقصص والتقارير التي تنشرها الجرائد.
وسط “البكائيّات” الرومانسيّة التي نسمعها في الأيام الأخيرة مع توقّف صحيفة “السفير” عن الصدور تحت عنوان “أزمة الصحافة الورقيّة”، وأزمة صحيفة “النهار” التي تنوء -بحسب المعلن- تحت وطأة الديون، ووسط تسريح مئات الصحافيين والصحافيات الذين يغادرون خشبة المسرح المضيئة ليجلسوا في صفوف الجماهير، أراني أعود الى كتب “رهبان” المهنة الذين فتحنا أعيننا على كتاباتهم ومن أبرزهم غسان تويني وأنسي الحاج وميشال أبو جودة وسواهم الكثير…
تلقّنا المهنة المهنة على هؤلاء، لغة وأسلوبا وانفتاحا وأخلاقيات وكتابة للورق في زمنه الجميل الذي لم يندثر على عكس ما يدّعي البعض لإخفاء تقاعسهم عن مواكبة التطوّر الذي حلّ بالمهنة والذي ظهرت بوادره في بدايات الألفية الجديدة.
“علامات” زمن الصحافة الإلكترونية
كان عام 2011 عام وسائل التواصل الإجتماعية بإمتياز والتي وصلت الى أوجها في عامي 2012 و2013. أرغمت الأدوات الرقمية الصحف ووسائل الإعلام التقليدية على تبديل أسلوب تقديمها للخبر والقصّة. وظهرت منافسا رئيسيا لوسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، ما أرغم أصحاب الصحف في العالم على الإسراع في استحداث نسخ من الصحف موافقة لمعايير “الآيفون” و”الآيباد” مروجين للتطبيقات وللخدمات الصحافية الآنية أو “النشرة المستمرة” لمواكبة الأحداث، فطوّروا مواقع الصحف الإلكترونية وعكفوا على التفكير جديا في كيفية الإنتقال الكلي الى النسخ الإلكترونية، لأن الطبعات الورقية باتت محدودة الإنتشار. وقد برزت تجارب صحافية راقية في مواقع عالمية منها “الواشنطن بوست” على سبيل المثال لا الحصر، حيث من الممتع متابعة الأخبار وأشرطة “الفيديو “الشارحة للحدث الإنتخابي الرئاسي الأميركي على سبيل المثال، والتطبيقات والصور والمواد التحليلية البعيدة من الخبر العادي والتي لا يجلبها سوى صحافيون متمرّسون تحتاجهم هذه الصحف سواء كانت إلكترونية أم ورقية.
طوّرت الصحافة في العالم أدوات نقلها للحدث على وقع التطوّر التكنولوجي والرقمي الهائل ودرّبت صحافييها على العمل المتعدد في المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الإجتماعية من دون التخلي عن المعايير المهنية والأخلاقيات التي بات لها قواعد معينة تخص النشر الإلكتروني.
وقد واكبت هذه الصحف أيضا تطوّر احتياجات المعلنين، بحيث بات انتشار الإعلان التجاري أوسع وأكبر في المواقع ولكن أيضا في وسائل التواصل الإجتماعية التي تطغى اليوم بأهميتها على المواقع الإلكترونية فترى أجمل الإعلانات الثابتة والمتحركة عبر إنستاغرام” مثلا وسواه من الوسائل الحديثة.”
الصحافة اللبنانية في …سبات
ماذا كانت الصحافة اللبنانية تفعل طيلة هذه الفترة الإنتقالية الطويلة من “الحراك” الإلكتروني والرقمي؟
إكتفى القيّمون على الصحف اللبنانية بنسخ الصحيفة الورقية الى المواقع الإلكترونية وفتحوا صفحات تواصل إجتماعية عبر “فايسبوك” و”تويتر” ورفضوا إدخال التطبيقات الحديثة وتطوير مهارات كتابهم ومراسليهم لمواكبة العصر الرقمي.
إعتاد هؤلاء على “الصحافة الريعيّة”، أي تلك التي تطلب المال الكثير الكثير من الدول الثرية ومن دول تبحث على خرق المشهد الإعلامي والسياسي العربي.
واعتادوا أيضا على استثمار “المواسم الإنتخابية” لتدفيع المرشحين أموالا كي ينشروا لهم مقابلات أو لتمرير مصالح معينة.
كان هؤلاء مع “كبار” محرريهم ينكبون على نسج العلاقات الوطيدة مع مواقع القوى السياسية والأمنية ورجال الأعمال لدعمهم بالمعلومات وبالسلطة والمال وإبعاد أي دخيل قد يستفيد من هذا الدعم.
كذلك عمل هؤلاء على إنشاء “حلف” مع المعلنين لتجزئة الأموال الإعلانية بطريقة تعطيهم “حصة الأسد” وترك الفتات للصحف الصغيرة.
كانوا يقومون بجولات لجني الأموال مرة أو مرتين في السنة أو ربما أكثر، فيزورون الدول الغنية التي اعتادت تمويل الصحف والصحافيين في لبنان إيمانا منها برسالته ونظرا لعلاقات صداقة ومودّة تاريخية مع أصحاب الصحف اللبنانية.
ثمّ، فجأة بدأ الصرح بالتهاوي.
أولى الصروح كان صرح نقيب المحررين الراحل ملحم كرم الذي أقفلت مؤسسته عام 2010 (دار ألف ليلة وليلة) بعد خلاف بين الورثة،ورحل معها مئات العاملين الى منازلهم بلا تعويضات، ما حدا بأحدالزملاء وهو نصري العكاري وهو متقدم في السن على الإنتحار، فرمى بنفسه من شرفة منزله في الأشرفية.
ثمّ بدأ “النقّ” حول “موت الصحافة الورقية” وذلك عبر مقالات متفرقة ترمى للقارئ بين فترة وأخرى لتحضير الأرضية التي أوصلت أخيرا الى الأزمة الكبرى التي يعيشها الوسط الصحافي اللبناني والتي تحتمل فعليا توصيف “النّكبة”.
مهنة الصحافة لا تموت
هذه “النكبة” لم تطل الصحافة كمهنة لأن من يعجزون عن الإكمال عجزوا لرفضهم مواكبة التطوّر. تشبه الصحافة مهنة الطبّ، فالطبيب أيا كان اختصاصه عليه دوما مواكبة الجديد في ميادين الجراحة والعلاجات والادوية، وكذلك الصحافي عليه دوما الخضوع لدورات تدريبية ومواكبة تطوّر مهنته الذي بدأ منذ أعوام.
يرفض هؤلاء الإكمال لأنهم فقدوا وسائل الكسب السريع، فالدول الخليجية مثلا باتت لديها صحافتها ووسائل إعلامها الذي يقدّم موادّا ممتازة. كذلك وصل الى السلطة في هذه البلدان جيل سياسي جديد، معظمه شاب يفهم لغة المعرفة والمصالح المتبادلة ويدرك أهمية الإستثمار في مشاريع منتجة أو أقله ناجحة تمنح بلاده صوتا في المدى العربي أو الدولي. ورأى هذا الجيل في زواره اللبنانيين الموسميين مجموعة من طلاب الرزق الذين لا يفيدونه في سياساته، وجلّ ما فعلوه هو بناء القصور وشراء الأراضي والمنازل في الخارج، والعيش في ترف لا يحلم به أصحاب الأقلام الشريفة والمثابرة والمنزّهة.
ووسط الأزمة المالية الحادة، وتراجع دور لبنان السياسي عن وقوفه الى جانب القضايا العربية رفض هذا الجيل الإنغماس أكثر في لعبة توزيع الأموال.
من جهتها، لا تزال محاور معينة منها على سبيل المثال إيران تموّل بعضا من المشهد الإعلامي والصحافي اللبناني، لكنّ إذا لم يستثمر المستفيدون هذه الأموال للحاق بالنهضة الصحافية العالمية فسيكون مصير وسائلهم الإقفال.
سؤال محيّر؟
لم أرث عن والدي صحيفة بل قلما، أجهد لإبقائه موجودا بعد أن تمّ صرفي أيضا منذ أشهر بسبب “أزمة الصحافة الورقية” المزعومة.
أسست موقعا إلكترونيا خاصا هو “مصدر دبلوماسي”، وأجهد في تحديثه وأحلم بأن يكون ذي مكانة وأن يعمل معي مستقبلا زملاء لم يرثوا سوى أقلام نيرة. وبعد أشهر قليلة على تجربتي القصيرة صرت أسأل نفسي: كيف يمكن لصحف عريقة بنت جمهورا واسعا ووفيا في لبنان والعالم العربي والعالم وقد وصل عدد متتبعيها عبر “تويتر” مثلا الى الآلاف أن تقفل وتسرّح طاقمها برمّته الى ساحة العاطلين عن العمل تحت عنوان “أزمة الصحافة الورقية”، في حين تجهد المواقع الحديثة ومنها موقعي لجلب قرّاء ومتابعين؟
كفى، أصدقائي “بكائيات” رومانسية، وتمثيليات لم تعد تنطلي على أحد.
لم أرث عن والدي صحيفة بل قلما، وقد دخلت المعترك الصحافي “مضللة” من قبل هؤلاء الذين رسموا لنا أن الصحافي يغيّر العالم، وكرروا على مسامعنا أن المال آخر ما يفكر به الصحافي!
بكلّ الأحوال، إن موت جريدة أو اثنتين أو ثلاثة لا يعني موت مهنة الصحافة ورقية كانت أم إلكترونية.
وعوض التباكي على من خذلوا جيلا صحافيا برمّته ينبغي العمل على بداية جديدة وثابتة وبناء مشهد صحافي مهني وموضوعي ينهل موادّه من الناس ومن الحقائق وليس من التسريبات والتركيبات.
لم أرث من والدي صحيفة بل قلما، وهذا القلم جعلني أتأكد مرارا ومرارا بأن القارئ ذكي جدّا لا تنطلي عليه ألاعيب وتمثيليات ولا بكائيات مفتعلة تخفي حقيقة مخجلة.
فالصحافة اللبنانية تبقى حية، وهي قامت دوما على أقلام ومناكب كتاب ومراسلين ومصورين هم جنود مجهولون ولم تقم يوما على مناكب “ضباط” فرّوا من ساحة المعركة بإرادتهم.