عقد “لقاء الهوية والسيادة” لقاء حواريا في قاعة الأخوين رحباني في دير مار الياس- انطلياس، بعنوان “متحدين فلنبادر من أجل لبنان”، بهدف “تفعيل دور هيئات المجتمع المدني من أجل إسماع إرادة الشعب والدفع في اتجاه وقف خرق الدستور وتفاقم الفساد”.
الكلمة الافتتاحية كانت لرئيس “لقاء الهوية والسيادة” الوزير السابق يوسف سلامة الذي تناول “الاشكالية التاريخية للأزمة البنيوية في لبنان”، وقال: “هناك من يتذمر لأن للورد شوكا، وهناك من يتفاءل لأن فوق الشوك وردا، وطن الارز، الضارب في عمق التاريخ، وطن ملايين المهاجرين، الذين ذهبوا حيث فتح الله أبوابه لهم ووفر السبل، اغتربوا هربا من الفقر والاضطهاد والحاجة؛ بلغوا أصقاع الدنيا ليعيشوا، فعمروا وأبدعوا وتقدموا، ليؤكدوا أنهم أبناء وطن قدسه الله، ويبقى شاهدا على الحياة، معاندا، مقاوما، لم يستسلم أهله في يوم، وتمكنوا من حفظه وإعماره، وتمسكوا به. حكمة الله أن يكون لبنان معبرا، وجسرا، يلوذ به المضطهدون، والمهددون بحياتهم وبكرامتهم ومعتقداتهم وأديانهم، فيعيد صياغتهم لينطلقوا حيث يرون مستقبلهم. تشكل على التنوع، وتعدد الثقافات والأديان والولاءات، فتجدد كيانه من هذا المكان بالذات، من عامية انطلياس التي أطلقت فكرة لبنان الكبير، وأرست أسس الأمة اللبنانية، ليتكرس في بداية القرن المنصرم دولة الحياة المشتركة بحدودها الجغرافية الحالية، وبديموغرافيتها المتلونة، ويتحول معهما، ولأسباب شتى، ساحة تصفية صراعات القوى الإقليمية والدولية، ولا يزال”.
أضاف: “في زمن التحولات الكبرى والنزوع إلى الانكماش، كل في طائفته ومذهبه، وبعدما أنتج الطائف وسلطته، توازنا تحاصصيا معطلا، وطاردا للكفاءات، في الدولة وأجهزتها، ومن البلاد، لاذت النخب والمتعلمون والنشطاء إلى الهجرة، ودامت الغلبة للطبقة السياسية وتحاصص العائلات، والزعامات التي تقدم مصالحها الشخصية على مصلحة الوطن. البلد العرضة لعبث الرياح الإقليمية والدولية، أصبح في مهبها وقد تحولت الرياح منذ 2010 إلى إعصار. أوطان وجغرافية وشعوب تحطمت، ويقتل أبناؤها في حرب همجية تدميرية، فما كان، قد أفلس وانهار، وما يجب أن يكون، لم ترتسم ملامح صورته بعد. والفوضى الضاربة في العرب والمسلمين وبلاد الشرق، تستدرج الجميع ليبذل فيها ويسعى لتحقيق مصالحه، فتتحول الأزمة السورية إلى عالمية بامتياز. في هذا البحر الهائج، وفي عين العاصفة يقع لبنان، وتتهدده جملة من الأزمات التاريخية والتكوينية، تمس في جوهرها، جغرافية الكيان، ووظائفه التاريخية، وتضرب عميقا في بنية النظام ومؤسسات الدولة”.
وتابع: “مصالح الطبقة السياسية والاقتصادية ألغت الحوكمة فاقتضى الفراغ، واقتضى بذلك التمديد للفراغ، لا تجتمع حكومتها إلا إذا توافقت على صفقات التحاصص الإفسادي على حساب البلاد ومستقبلها وشعبها. فبتنا نعيش واقع أزمة وجودية مفتوحة على كل الاحتمالات. الدولة ومؤسساتها وخدماتها في حالة فراغ وعطالة. النفايات تتكدس لأشهر، وتعالج بالتقسيط المريح للطبقة السياسية، لتأمين حصصها في نهب خزينة الدولة وأموال الناس والبلديات. الانترنت والاتصالات مغارة علي بابا والألف حرامي، منهبة مفتوحة لأزلام الطبقة الحاكمة. الكهرباء، حدث ولا حرج، إنها فضيحة العصر، بل قمة الفضائح في هذا الزمن الرديء. الحركة الاقتصادية في أسوأ حال وكل القطاعات تشكو وتصرخ ولا من يجيب. القطاع المالي والعقاري والتجاري والسياحي في أزمة قد تنفجر في وجه الجميع، فلا يبقى ما يذكر من خصال حميدة للاقتصاد اللبناني. المماطلة في إقرار سلسلة الرتب والرواتب والتأجيل سيد قرار الطبقة المتحكمة التي تزيد بالتلويح برفع الضرائب وأكلاف الخدمات التي لا تقدم أصلا. لا شيء يدعو إلى التفاؤل أو الأمل. الحراك المدني والشعبي، ألقى حجرا في المياه الراكدة لكن الطبقة السياسية تمكنت منه، وتوحدت في مواجهته بكل رموزها وأحزابها وتياراتها، غير أن الانتخابات البلدية، ومجرياتها، أشعلت شمعة في ليل الأزمة السياسية والعامة في لبنان”.
وأردف: “الحال إذن تختصر كالتالي: البلاد تعيش أزمة كارثية، كيانية، تهدد الكيان ووظائفه واستمراره وتعصف بالنظام وكل قواعده وآلياته ومؤسساته. الطبقة المفلسة سياسيا والفاسدة والفاشلة وطنيا، تدير البلاد بعجز تام، فتعطل السلطات والمؤسسات، وتسعى لتعميق الفراغ، والتمديد للمجلس النيابي في ظل فراغ القصر الرئاسي، وفراغ السلطة التشريعية التي مددت لنفسها ولم تمارس أي دور في التشريع والمحاسبة. الناس مهددون بليرتهم ولقمة عيشهم وأعمالهم وتعليم أطفالهم وتطبيبهم، وبفساد مأكلهم ومشربهم وهوائهم والاعتداءات على الطبيعة. والكارثة الاقتصادية الاجتماعية تلوح في الأفق القريب والمتوسط، وليس من رهان على القوى والطبقة السياسية السائدة. وحدها تحمل مؤشرات بشرى، حالة الامتعاض الشعبي العارمة، والحراك الشعبي الذي مازال طليعيا، ومتفرقا، وموسميا، وبإزاء قضايا محلية أو قطاعية، مما يسهل على الطبقة السياسية وأجهزتها الأمنية الاقتصاص منه وإعاقته وتعطيله”.
وقال: “لكل ما تقدم، أخذنا على عاتقنا أن نحاول، وأن نسعى، وسنواصل السعي من أجل معرفة الجاري، ومخاطره، وما قد يكون في الغد، وكيف لنا أن نستعد لمواجهته، بل ما يجب أن نفعله لنصنع غدا في صالحنا. إننا مدعوون الى الاجابة على أسئلة جوهرية تطاول وجود لبنان في دعوته ورسالته، وتلهم طريقنا المتعثر نحو المستقبل: هل نجح الشعب اللبناني في إنتاج هويته الوطنية خلال سبعة عقود من استقلال الكيان اللبناني؟ هل صحيح أن الأزمة في لبنان هي أزمة قادة ورجال، أم أزمة نظام لم يعد صالحا لحل أزمات لبنان؟ هل يتحمل لبنان تسوية ظرفية مؤقتة أم هو بحاجة لحل جذري لأزمته المستفحلة؟ وكيف الوصول إلى ذلك؟ هل دولة لبنان الكبير التي راكمت خبرة فريدة من التفاعل الحضاري والديني لا تزال قادرة على حماية الكيان اللبناني الأقدم في هذا المشرق؟ إن دعوة لبنان ورسالته التاريخية أعطتاه موهبة إنتاج التفاهمات الحضارية والتسويات النبيلة بين المسيحيين والمسلمين، وبين المسلمين على تنوع فئاتهم، وما يستطيعه اللبنانيون على هذا الصعيد لا يستطيعه غيرهم، وبخاصة على مستوى توليد مفاهيم قيمية وسلامية تصلح لبناء سلام عادل ومستدام على مساحة المنطقة المأزومة بالدم والدمار. أفليست هذه قيمة لبنان كمنتج للسلام في هذه المنطقة؟ أليس مشروع اللبنانيين المستقبلي توليد آفاق السلام والازدهار بين أبناء ابراهيم، في وسط هذا المشرق المثقل بالدم والدموع بدل سلام الزنا الحاصل في الظلمات”؟.
وختم سلامة: “لقاؤنا هذا، هو الأول، نرجو أن يخرج بنتائج محفزة ومشجعة لنتداعى معا ونتحد في الجهد والرؤية سعيا لإطلاق حركة شعبية، اجتماعية واسعة، قادرة على فرض نفسها ومشروعها ومصالحها، تعبيرا عن مصالح الشعب اللبناني قاطبة لإنقاذ البلاد والعباد، وتحقيق أوسع مشاركة شعبية في إعادة بناء النظام والدولة على قياسات عصرية اجتماعية تلبي الحاجات وتخرج بلدنا من عين العاصفة الزلزال؛ حركة تفعل دينامية المجتمع اللبناني وتحطم هذه الصنمية المتحكمة به، وترتقي إلى مستوى الأحداث المحيطة بلبنان، وتجترح الحلول المستدامة للأزمات المستعصية التي تعصف به، وتوفر الأمان والاستقرار للبنان ولشعبه”.
الجلسة الاولى
ثم بدأت الجلسة الأولى التي تناولت “دور المجتمع المدني في إعادة بناء الدولة”، تكلمت فيها رباب الصدر ورئيس جمعية “فرح العطاء” ملحم خلف ورئيسة “ماراتون بيروت” مي الخليل.
وذكرت الصدر بنهج الإمام المغيب موسى الصدر بأن “لبنان ليس بلد الطوائف بل هو بقعة سحرية عاش فيها اللبنانيون السلام والحرب”، كما ذكرت بدعوته إلى “توفير شبكة من العلاقات بين أبناء المجتمع قوامها معرفة الحقوق وآداء الواجبات لإرساء العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع”.
ونوهت الخليل ب”دور لقاء الهوية والسيادة وسعيه الى بناء دولة وتعزيز مفهوم المواطنية”، وقالت: “من السهل توجيه الانتقادات وأصابع الاتهام، ومن الأسهل الاستسلام، لكن يجب مضاعفة الجهود في وجه التحديات من خلال الرياضة القادرة على تغيير المجتمعات، هي التي حققت حالة استنهاض للبنان بعد الانقسام الطائفي والمذهبي والسياسي الذي حصل فيه”.
بدوره رأى خلف انه “على المجتمع المدني أن يأخذ جميع مبادراته ولو كان في وقت من الأوقات قد عجز عن أن يكون الرافعة المنتظرة للضغط على السلطة اذا وجدت”. وأسف ل”الزبائنية القائمة في لبنان على تملك السياسي إرادة الناخب”. ودعا إلى “تحرير الدين من الطائفية كي لا يسقط الدين أو يستغل لمآرب شخصية وسياسية ضيقة”.
الجلسة الثانية
وفي الجلسة الثانية التي تناولت “توصيف الواقع اللبناني الراهن ومخاطره”، سأل الوزير السابق الدكتور جورج قرم “ما هو الخطر الداهم على لبنان كي نعرف كيف نتعاطى معه”، معتبرا “اننا لا نواجه ديكتاتورية واحدة بل مجموعة ديكتاتوريات كل في طائفته، والأدهى أن هذه الديكتاتوريات تتقاتل في ما بينها وليس ضمن طائفتها بل هي تقمع شعبها”. ودعا إلى “وجوب أن ننظف عقولنا من مخلفات الأفكار التي تشوه العقل اللبناني لأننا نعيش للأسف ثقافة اللاثقافة الوطنية”، مشيرا إلى أن “القوى التغييرية يجب أن تحمل مشروع سلطة ديموقراطية”. وشدد على “وجوب الضغط على المراجع الروحية كي تبقى روحية وتبتعد عن السياسة والخطب المثيرة للنعرات في المقرات الدينية”.
وطرح الدكتور جورج شرف إشكالية متعلقة بالصيغة وبطابعها الإيديولوجي السلوكي، فرأى أن “الأزمة يجب أن تبدأ معالجتها من خلال الوقائع اللبنانية”، معتبرا أن “المشكلة هي في كوننا نعالج الإفرازات السياسية لمشكلة كيانية لا تحتمل تسويات سياسية بل تتطلب تسوية تاريخية بين الجماعات المكونة للكيان اللبناني لبناء مجتمع مشترك في هذا الوطن، فجذور المجتمع في لبنان أنه مجتمع مركب بنيويا ولكنه في حالة نزاعية وظيفيا”.
الجلسة الثالثة
وتناولت الجلسة الثالثة “البيئة الاقليمية المتفجرة: اي سياسة للبنان”، ورأى السفير ناصيف حتي أن “السياسة الخارجية في لبنان هي بمثابة حبل مشدود خوفا من الوقوع في التقاتل وهي رهينة لتوازنات متحركة وممزقة”، وقال: “اننا نعيش اليوم أصعب اللحظات حيث نعيش حربا باردة، ومذهبيات سياسية قاتلة مميتة تتقاتل باسم عناوين جذابة”. وأعرب عن تخوفه “من أن نتحول إلى دولة فاشلة”. وطالب ب”تشكيل مجموعة تفكير تعمل في اتجاه تخفيف أجواء التوتر بين مختلف الأطراف الداخلية والخارجية”.
بدوره رأى الدكتور عبد الحميد الأحدب “اننا في لبنان نترحم على الأيام الماضية”، ورأى “ان الذهاب إلى الحل النهائي في ظل التركيبة الحالية هو بالحياد الذي يقتنع به اللبنانيون ولا يفرض عليهم فرضا”. كما اعتبر أنه “لا يمكننا أن نحمي هذا الحياد إلا من خلال التصويت عليه والاستفتاء، وندخله بعدها في الدستور ونعقد اتفاقات مع الدول التي تضمن هذا الحياد وتطبيقه”.
التوصيات
وفي الختام تلا الامين العام للقاء الدكتور جبران كرم التوصيات، فقال: “وصفنا واقعنا الخطير وحددنا دور المجتمع المدني الذي يمثل القوى الحية في المجتمع اللبناني، والتي تريد البقاء والإزدهار للبنان وتريد تحريره من نظام المحاصصة الطائفية والفساد الممنهج الذي عاد بلبنان إلى العصور الوسطى، وبحثنا في الخطوات العملية والمطالب الأساسية التي يجب التركيز عليها لوقف المنحى الإنتحاري للجمهورية اللبنانية قبل أن يفوت الأوان: وعليه نوصي بما يلي:
1- تشبيك هيئات المجتمع المدني على اختلافها في منبر دائم ليصبح قوة ضغط متواصل وبوصلة لمن كان في سدة الحكم.
2- مكافحة الفساد في كل اشكاله وتطوير مجموعة خطوات عملية تبدأ بحملة تربوية تثقيفية ترعاها كل المراجع الأخلاقية.
3- تفعيل أجهزة مستقلة للمساءلة والمحاسبة.
4- تأليف لجنة من المفكرين والخبراء تقوم بطرح إقتراحات عمليات وسياسات تطبيقية.
5- تطوير نظام الحكم في لبنان لتوحيد اللبنانيين حول ما يتشاركون به، بدل شرذمتهم وتقسيمهم، في نظام يعكس واقع المجتمع وطبيعته ووضع آليات للحكم تكسر الاستبداد والفساد المركزي وتسمح بإنماء عادل وتطوير إقتصاد عصري.
6- إلغاء نظام المحاصصة المذهبية والإنتقال إلى الشراكة الفعلية الكيانية بين المكونات التاريخية للبنان في نظام متوازن يعطي للشعب كلمته ويحفظ للمكونات ميزاتها.
7- إعتماد سياسة خارجية واقعية فاعلة وحيادية تسمح للمجتمع اللبناني بمداواة جراحه وبناء قدراته ونظامه وتبعده عن الصراعات الإقليمية والعالمية مهما كانت، لأن انخراط لبنان أو اللبنانيين فيها يعني نهاية لبنان ونهاية التجربة اللبنانية التي قد تمثل الأمل الوحيد لشعوب المنطقة في إنشاء دول عصرية على أساس العيش المشترك وحقوق الانسان”.