حنين تسأل سفير ألمانيا: عمّو أيمتى رح نرجع ع سوريا؟
تلاحق الطفلة حنين شوّاف (6 أعوام من مدينة حلب) الطاقم الأمني لسفير ألمانيا مارتن هوت، تحاول اختراق الرجال الفارعي الطول وذي العضلات المفتولة، تمسك بيد رفيقتها في الصّف وتركض في ردهة مدرسة المرج المتوسّطة الرسمية حيث يقوم سفير ألمانيا بزيارة تفقدية للإطلاع على أحوال 750 من التلامذة السوريين الذين يتابعون الدراسة بعد الظهر، مستفيدين من برنامج Raise 2 الذي تديره وزارة التربية اللبنانية والذي تسجّل بموجبه لغاية اليوم 160 ألف تلميذ سوري، ويطمح لأن يصلوا هذه السنة الى 200 ألف تلميذ، ثمّ الى 420 ألف تلميذ كما قال لـ”السفير” نائب ممثّل منظّمة اليونيسف لوتشيانو كالستيني.
تعتبر ألمانيا الراعية الأولى لهذا البرنامج ، إنطلاقا من اهتمامها بتوفير التعليم لجميع التلامذة السوريين النازحين في لبنان ، والذي يفيد منه أيضا التلامذة اللبنانيون الذي أعفوا هذه السنة من الرسوم المدرسية، ودرسوا في كتب مجانية.
وبعد انعقاد مؤتمر لندن لمساعدة سوريا أخيرا، إنتقلت الدّول المانحة وألمانيا في طليعتها من مرحلة المساعدات العينية للسوريين الى التخطيط لوضع برامج تربوية محفّزة، وتوفير فرص عمل بهدف إبعاد النسبة العالية من الشباب السوريين من البطالة التي تولّد آفات عدّة.
وبعد وجوده في لبنان منذ 7 أشهرـ أراد السفير الألماني مارتن هوت المعاينة الميدانية لكلّ التقارير التي يقرأها يوميا عن أوضاع النازحين السوريين في لبنان، وخصوصا وأنّ ألمانيا تعهدت أخيرا في مؤتمر لندن بدفع مبلغ إضافي للنازحين في المنطقة يبلغ 2،6 بليون دولار سيفيد لبنان بجزء منها بحسب المشروعات والبرامج التي سيتبناها، والأولوية بالنسبة للألمان هي التعليم للجميع، وتوفير مياه الشفة وإنشاء محطات لمعالجة مياه الصرف الصحّي تفيد منها المجتمعات المحلية أيضا كي لا يحصل ايّ توتّر بين السوريين واللبنانيين.
المعاينة الميدانية عن قرب تكشف مشاكل لا تخطر في بال أيّ متابع لموضوع النزوح السوري عن بعد.
الدّلهميّة: مخيّم 36
يستقبل “الشاويش” وهو يعني “المختار” في لغة المخيمات السورية السفير هوت “بعبارة:” أهلا وسهلا… طرابيزة وشاي للسفير الألماني”.
الطرابيزة، هي عبارة عن كرسي قماشي منخفض بفعل كثرة الإستعمال، يحتاج الى تنجيد، يقبع في خيمة طبية تديرها جمعية “أوميديكا” الألمانية بطاقمها المختلط بين متطوعين ألمان ولبنانيين عاملين مع النازحين السوريين منذ عام 2012 بحسب المتطوّعة الألمانية فيرا إيبل.
هنا طاولات ملأى بالأدوية، وأطباء لبنانيون يجلسون كلّ واحد الى طاولة جانبية منهمكين بتشخيص حالات أطفال سوريين يعانون من أمراض عدّة وخصوصا في التنفّس.
عدد كبير من الأمهات تحملن أطفالا معظمهم من الرضع وتنتظرن دورهنّ لتلقي العلاج: علياء مصطفى تضمّ بين يديها إبنتها فاطمة (7 أشهر) وهي حلبيّة تعيش في لبنان منذ 3 أعوام ولديها 4 أطفال معوّقين، تصرخ وتقول:” ناقصنا كلّ شي، نشتغل يوما ونجلس شهرا بلا عمل، لا لباس عندنا ولا خزّان مياه ولا تدفئة وخيمتنا لا تعدو كونها ” هيكل ساتر علينا”.
تنصبّ معظم شكاوى سكان “مخيّم 36″ في الدّلهمية على الأمم المتحدة” وتحديدا المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
تقول تماثيل أحمد ( من حمص) أعيش في لبنان منذ 4 أعوام و”الأمم” لم تعطني شيئا مع أنني مسجّلة، لا طعام، لا شوادر، لا خشب لا شيء، لولا الألمان لأكلتنا الأمراض.
“السفير” سألت نائب رئيس المفوّضية العليا للاجئين جان-نيكولا بور عن الموضوع المثار بقوّة من النازحين في أكثر من مكان، فشرح ألا علاقة للتسجيل في الأمم المتحدة بالغذاء الذي يتولاه برنامج التغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، لافتا في الوقت عينه الى أن المبلغ الذي يستفيد منه النازحون المسجلون وقدره 150 دولار شهريا لم يعد كافيا للجميع بسبب نقص التمويل لذا فإن 70 في المئة من النازحين لا يحصلون عليه.
هذه الطبابة الأولية في المخيّم تواجه أيضا نقصا في التمويل الكافي لإجراء عمليات معقدة في مستشفيات بيروت. وروى الطاقم الطبي للسفير هوت عن الحاجة الملحّة الى أخصائيين بالأمراض النفسية وخصوصا للنساء الآتيات من جحيم الحرب واللواتي تراوح أعمارهنّ بين الـ18 والـ35 عاما.
وقف هوت يصغي الى كلّ حالة على حدة، حتّى الحوامل كنّ تشتكين له عن أمراض تصيبهن مطالبات بأدوية معيّنة غير موجودة في المستوصف المحازي لمخيّم 36.
ومن الأمراض أيضا تلك التي تطال العيون ولا علاج لها في المخيّم مع أنها تحتاج أحيانا الى نظارة لا أكثر.
هذه حالة بشرى (عامان) إبنة أميرة خلاوي وهي تعاني من مرض الحول. كذلك الطفل حسين شموري ( 4 أعوام) الذي تحمله والدته فطيم عباس عامر بسبب إنحراف في العينين يمنعه من السير والركض بشكل طبيعي لأنه سرعان ما يقع بسبب هذه المشكلة. ثمّة 4 حالات مماثلة في مخيّم 36 وهي تحتاج الى علاج فوري غير متوافر يستعيض عنه الأهل بشراب مقو للأطفال و”لصقات” كما تخبرنا فطيم.
لا يعلمون بوجود المدارس
لكنّ هذا المخيّم، الذي تصطفّ خيمه المكوّنة من ألواح خشبية وحديدية وموادّ بالية على مساحات واسعة وتتكاثر في شوارعه الأحذية البلاستكية المخصصة للأطفال الذين ينتعلونها ليتمكنوا من التنقل في الوحول، يعاني أيضا من نقص حاد في الأنشطة الإجتماعية وفي التعليم.
صعق السفير هوت وهو يتحدّث الى عمار محمّد ( 17 عاما من الحسكة) والأصلح القول أن هوت أصيب بالهلع حين عرف من عمّار ورفاقه أنه أوقف دراسته منذ (3 اعوام) وأنه يجلس طيلة النهار لا يعمل شيئا.
في مخيم 36 كثر من المراهقين والأطفال لا يرتادون المدارس بعد الظهر، إما لأنّهم لا يعلمون بأن ثمة برامج تعليم للسوريين ( كما هي حالة عمّار) وإما لأن المدارس اللبنانية باتت ترفض قسما كبيرا منهم بسبب عدم قدرتها على الإستيعاب.
لكنّ هذه المشكلة في عدم الإستيعاب العددي لها أيضا تبعاتها البيئية.
مطالبات بمقابر!
في بلدة غزّة مثال صارخ عن الأعباء التي تعانيها المجتمعات البقاعية جرّاء النّزوح: تعدّ البلدة بحسب رئيس بلديتها محمّد المجذوب 5 آلاف نسمة، في حين بلغ عدد النازحين السوريين اليها 30 ألفا. كانت موازنة البلدية قبل أزمة النزوح 220 ألف دولار سنويا وبالكاد كانت تفي بالإحتياجات البيئية والصحية للبلدة.
أما أخطر المشاكل فتلك التي تتعلّق بالصرف الصحّي، ففي مدرسة البلدة مثلا ثمة 450 تلميذ لبناني يتعلّمون قبل الظهر، و750 سوريا يداومون مساء، ولولا مشروع الصرف الصحي ومحطة التكرير التي موّلتها ألمانيا، لوقعت غزّة في أزمة صحية كبرى مع وجود 1200 تلميذ سوري يدرسون بعد الظهر في مدارسها الثانوية الثلاثة.
ويشير المجذوب لـ”السفير” بأنّ ” هذا الإحتضان الألماني خفّف الإحتقان بين الأهالي وجعل اللبناني يصمد في وجه موجة النزوح. كذلك واكب التمويل الألماني أيضا نقل النفايات عبر توفير 40 سيارة نقل وزعت على البلديات في البقاع والشمال.
لكنّ التنافس على العمل موجود أيضا وخصوصا في الزراعة التي يبرع فيها السوريون الآتون من الأرياف، يقول المجذوب:” إستخدمنا العمالة السورية لأنها أرخص، لكن للفلاح اللبناني معاناته أيضا، لا سيما أن طريقة عيش اللبناني مختلفة وأعباءه أكبر”.
لهذه الغاية، ولتخفيف الإحتقان العملي أيضا عمد الألمان الى تمويل طريق زراعية ممولة من الوزارة الإتحادية الألمانية للتعاون الإقتصادي والتنمية ومن بنك التنمية الألماني، وتولّى تنفيذه برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي في لبنان ضمن برنامج دعم المجتمعات المضيفة. بالإضافة الى مشروع آخر يتعلق بإقامة قناة لتصريف مياه الأمطار التي كانت تتسرّب الى منازل الغزّاويين.
إلا أن ثمة مشاكل لم يفكّر فيها الممولون لحظة واحدة ومنها إيجاد عقارات مخصصة لدفن السوريين الذين يقضون في لبنان، في غزّة مثلا يولد سنويا ما لا يقل عن ألف طفل ويموت آخرون ، لغاية اليوم دفن الغزاويّون السوريين في مدافنهم العائليّة، لكنّ المشكلة تتفاقم وتحتاج الى حلول سريعة.
حنين… وسؤالها الصعب
كانت حنين ورفيقتها تصعدان الأدراج بسرعة الى حين تنبّه لها أحد مرافقي السفير هوت وأشار إليه بأن الطفلة تريد أن تطرح عليه سؤالا.
يبدو بأن حنين علمت بوجود هوت مجتمعا في أحد الصفوف في مدرستها (متوسطة المرج الرسمية) مع الطاقم التعليمي وممثلي “اليونيسف” مناقشا معهم المشاكل التي يواجهها برنامج Raise 2 والمشاكل التي تواجه الطاقم التعليمي وخصوصا لجهة عدم التزام التلامذة بالدراسة إذا حصلوا على فرصة عمل، فالأولوية بالنسبة لأهاليهم هي العمل وجني الرزق وليس التعليم، لا سيما أن معظم هؤلاء يأتون من مجتمعات زراعية.
تطلع السفير هوت الى الطفلة وعاد أدراجه مقتربا منها مستويا على ركبتيه للحديث معها، قال لها:
– ما اسمك؟
– حنين
– من أين أتيت من سوريا؟
– من حماه
– ما هو سؤالك يا حنين؟
وصعق السفير هوت حيت سألته الطفلة: عمّو أيمتى رح نرجع على سوريا؟
وكأن كلّ التمويل وكل الإهتمام وكلّ الزيارات وكلّ البرامج المنبثقة عن المؤتمرات الدولية عاجزة عن سدّ الحاجة الوحيدة لهذه الطفلة.
إلتفت هوت إليها وقال بمرارة: إننا نعمل ما بوسعنا لتعودوا الى سوريا اليوم قبل الغد. وطبع قبلة على جبين الطفلة التي تركت لديه غصّة واضحة. وغادر.