“مصدر دبلوماسي”- خاص
نظّم المجمع الثقافي الجعفري أمس الخميس في قرية الساحة التراثية مؤتمرا بعنوان :” العدالة الحسينية والواقع الدولي والبعد الاجتماعي” وتميز المؤتمر باستضافته شخصيات ذات هوية سياسية مختلفة عن تلك التي تعدى عادة الى ضاجية بيروت الجنوبية أبرزها نائب رئيس حزب الكتائب النائب الدكتور سليم الصايغ والنائب السابق غسان مخيبر في حضور باقة متنوعة من المهتمين من اطياف متنوعة. فقد أراد العلامة الشيخ محمد حسين الحاج ومجلس أمناء المجمّع الثقافي الجعفري تطبيق رسالة الحسين بالانفتاح ومدّ يد السلام للجميع، وكانت النتيجة مميزة ومفاجئة للحضور وخصوصا في الكلمة التي القاها الدكتور سليم الصايغ حيث اكتشف الحضور مدى ضلوعه وتعمقه في السيرة الحسينية وابعادها الدينية والفلسفية والسياسية وقد اسقط الدكتور الصايغ محاور كلمته منطلقا م الواقع الصعب الذي واجهه الامام الحسين على الواقع المعقد الذي يعيشه لبنان من دون فقدان قيمة السيرة الحسينية. لذا ينشر موقع “مصدر دبلوماسي” كلمة الصايغ كاملة وهو بدا سعيدا جدا بين كوكبة من العلماء والمهتمين وقد لقي ترحابا حارّا من الجمهور الموجود في قلب ضاحية بيروت الجنوبية. وحضر: النائب السابق الدكتور غسان مخيبر الذي القى كلمة حول السيرة الحسينية وحقوق الانسان والقى الشاعر ميشال كعدي قصيدة مؤثرة تسرد فلسفة الثورة الحسينية وحضر ايضا رئيس حزب الخضر وحركة السلام فادي ابي علام وممثل عن الرابطة المارونية الدكتور انطوان نجيم ومفتي صور الدكتور الشيخ مدرار الحبّال والدكتور احمد الزين وممثلين عن الطوائف اللبنانية. ركزت المداخلات على اهمية الافادة من ثورة الامام الحسين من اجل اصلاح الواقع الدولي والسياسي اليوم في ابعاده الاجتماعية والانسانية والواقعية وأنه ينبغي مقاربة الواقع برؤية جديدة تنطلق من ثورة الامام الحسين عليه السلام.
هنا الكلمة الكاملة للدكتور سليم الصايغ:
سمو سماحة الشيخ محمد حسين الحاج والحضور الكريم:
إن في العودة إلى مناسبة مقدسة في إطار نقاش علمي فيها بحد ذاتها فرادة لا بد من الإشارة إليها كتمهيد لموضوعنا حول الثورة الحسينية والعدالة. إذ أن التحدي الأول الذي يواجه الباحث هو القدرة على التمييز بين العقل والمنطق من ناحية، والإيمان من ناحية اخرى، للمحافظة على الموضوعية طبعاً، ليبرز بسرعة التحدي الثاني وهو في اعادة الربط بين العقل والإيمان، وقد اقول بين الفلسفة والإيمان بشكل لا يعمي احدهما الآخر بل يكون منارة للآخر للوصول الى الوعي الخالص والادراك المستنير، حيث تتم اضاءة الجهل بالمعرفة والشك باليقين والعلم بالحكمة والمبنى بالمعنى والجسد بالروح واليأس بالرجاء والعدالة بالرحمة والمصلحة بالمحبة والحاضر بالنبوة. فيبرز بوضوح التحدي الثالث وهو الإنتقال بموضوع مرتبط بزمن كربلائي خاص في جغرافيا محددة جرت احداثها بين مكة المكرمة والمدينة المنورة والكوفة في أزمة سياسية تبدو للوهلة الاولى، وكأنها صراع عادي على السلطة، إلى قضية متلازمة مع القيم الإنسانية جمعاء تهم كل الناس في كل الأزمنة وكل الأمكنة ومرتبطة بمشروع الله وتدبيره. تستحضر هذه التحديات الثلاث دعوات ثلاث للثورة الحسينية والعدالة.
الدعوة الأولى هي ثورة التجذير، اذ لا بد من الانطلاق من القيم والفضائل في بعدها الجوهري بعيداً من اي استنساب او شرح ظرفي او إطار متغير. إن أهمية الإشكالية التي واجهها الإمام الحسين هي في الإختبار العظيم الذي نسميه الفتنة التي ادت الى النزاع مع يزيد والتي نستذكر ظروفها وخواتيمها في كربلاء في شهر محرَم من كل سنة. ان اهمية الحدث التاريخي هو في اعطائه نموذجا” واضحا” وموقفاً صريحاً لا يقبل التأويل حول تطبيق مبادئ مارسها من قبل الإمام علي بن ابي طالب واكملها حتى الشهادة ابنه الحسين. ان تكرار المطالبة السنوية في ذكرى عاشوراء برفع المذلة والظلم وغسل المأساة بالاسى واللوعة والحسرة وطلب العدالة فيه تعبيرا عن الإلتزام بجذور هذه الثورة الحسينية.
بإختصار لم يطلب الحسين الَا العدالة وهو قال بالشورى، وهي افضل الديمقراطية ممارسةً في زمنه، وطالب بالحوار وبالكلمة السواء واعتبر ان الإلغاء والإقصاء والتهميش انما هو نفي للحق فكان صراعه بين الحق والباطل.
اما الدعوة الثانية للثورة الحسينية فهي دعوة التجديد. وفي ذلك تيويم للأصول والمبادئ من حيث ضرورة معالجة مسائل مرتبطة بالمعاملات المتغيرة على ضوء الثوابت المتعلقة بالعبادات في عملية مراجعة دائمة يجتهد فيها الإنسان لكي يحيا ملئ الحياة الأرضية تحضيرا” لكسب ملئ الحياة الأبدية. كل ذلك في حركة لا تستكين طالما ان في الأرض فسادا” او جوعا” او ظلما” او ضعفا”. ان دينامية التغيير نحو الأفضل فيها إحقاق للعدالة، ولا عدالة بالمفهوم الشيعي ،كما فهمتها، الا بالحرية. وكأني، بخروج الإمام الحسين من مكة، بالرغم من التحذيرات التي تلقاها، انما هو تعلق بالحرية مهما كلف الثمن لاسيما حرية القول والعمل وحرية الإنسان في غدوه ورواحه ضمن إطار القانون . كذلك في ما يتعلق بحرية التفكير، اذ كيف للعدالة ان تقوم من دون تحرير الإنسان الفعلي عبر تحرير عقله ورأيه وقراره؟
تربى الحسين على يد ابيه الذي ترك الحرية لجنوده من اللحاق به إذا اقتنعوا، اذا اقتنعوا والا اعتقهم من اي واجب تجاهه. كان الحسين وقبله الإمام علي، على ثقة ان لا خوف من الفكر الحر لانه كان في قلبه ووجدانه حرا” قادرا” ان يقارع الحجة بالحجة، والكلمة بالكلمة، والجرأة بالجرأة والخيانة بالغفران وفي كل ذلك إدراك ان الحر وحده هو القوي العادل والقادر المؤهل.
فكلما ازداد قدر المعرفة ارتفع الوعي والحرص على المصلحة العامة والعدالة معها.
إن مبدأ العدالة المتلازم بالحرية يعطي للثورة الحسينية بعداً عملياً لتعاليم الامام علي حول المساواة في الحقوق اذ قال واقتبس :”الحق لا يجري لأحد الا جرى عليه ولا يجري عليه الا جرى له”. وفي مكان آخر اقتبس :”ليكن امر الناس عندك في الحق سواءً. وطبعاً الناس هنا هم كل الناس لا تمييز بينهم على اساس العرق او الدين او اللون او الجنس. ان هذه المساواة في الحقوق لا تأتي فقط كمبدأ عام انما تنسحب كذلك على ما ينتجه الإنسان.
إذ اعتبر الحسين وقبله الإمام علي انه احقاق للعدل بين الناس ان تكون الأموال العامة هي ملك للشعب وليس بيد الحاكم او الطغمة او كما نقول اليوم السلطة او المنظومة. ان تراكم المال العام والموارد العامة كالذهب في مصرف لبنان، ومخزون الطاقة في باطن الارض او حتى الموارد الطبيعية الاخرى كالهواء النظيف او المياه العذبة والثروة الحرجية الخ…انما هي ليست ملكاً لجيل حاضر وعابر بل هي ملك للإنسانية التي تعيش على هذه الأرض والتي تتناقل جيل بعد جيل هذه الثروات فتحافظ عليها وتحسن فيها وتستثمر خيراتها لصالح الأجيال الآتية. وارى صدى” لهذه المبادئ في التعليم الإجتماعي للكنيسة الكاثوليكية التي تنادي بالواجب الديني للمحافظة على الثروات الطبيعية والبيئة.
وفي العدالة دولية كانت ام وطنية، واجب التكاتف والتضامن ونصرة المظلوم والوقوف الى جانب الحق دائما”. ان تحقيق العدالة الحقيقية يكون بقيام الناس بواجباتهم تجاه بعضهم البعض، كما بقيام الدولة بحماية الضعيف وتأمينها لكل الناس اذ لا عدالة في الحقوق العامة والخاصة اذا لم يتأمن الإستقرار على اساس العدالة الإجتماعية وهي عدالة الحد الأدنى.
ولا عدالة في الكون اجمع اذا لم تتأمن التنمية المستدامة، اذ ان في التنمية يتحقق الإنماء ويتعزز الولاء والإنتماء الى النظام الإنساني المتكامل والى الوطن. فكل خروج عن تعزيز كرامة الإنسان وإعلاء عزته يؤسس الى الخروج المؤكد عن مفهوم العدالة وبالتالي يمهد الطريق الى الفوضى والإنحطاط بتعابيره الاجتماعية والسياسية وحتى العنفية. ان روح المساواة كركيزة للعدالة كما نادى بها الامام علي وطبقها الحسين في ثورته ، لم تلغ ابدا” امكانية التقدم حسب الكفاءة. فإن كانت المساواة في الحقوق هي من القانون طبيعياً كان ام وضعياً فان التقدم الإجتماعي والسياسي هي من جهد الإنسان الخاص تماماً كما قال الإمام علي واقتبس:”قيمة كل امرئ ما يحسن”.
ومن المساواة بالحقوق والمساواة امام القانون ان كل استثناء من المثول امام العدالة فيه نقص لمعنى الثورة الحسينية ولتعاليم واداء الإمام علي. فلا تمييز عنده بين الحاكم والمحكوم بين الكبير والصغير، والمسلم وغير المسلم، حتى ان علياً قد مثل ،وهو امير المؤمنين امام القضاء وكان هو احد طرفي المتخاصمين.
لم تعترف الثورة الحسينية اذاً بحصانة لحاكم او لقوي او لكبير واعطت افضل مثال بالامتثال امام قاضي مستقل عن السلطة العامة او عن الحاكم.
فهل يجوز مثلاً الا ينفذ وزير، في الحكومة الحالية قراراً لمجلس شورى الدولة يقضي بإرجاع متخاصم مع الدولة وهو الرئيس الاصيل للوكالة الوطنية للاعلام السيدة لور سليمان وقد ابلغها مستشاره البارحة انه لن ينفذ قرار القضاء بصريح العبارة ؟ هذا مثال واضح على ما رفضته الثورة الحسينية في احقاق العدالة.
فالعدالة عند الإمام علي والإمام حسين ليست خياراً انما واجباً ليست انتقائية او استنسابية للحاكم ولا يمكن ان تكون ممهورة بالتقدير السياسي اذ ان قناعة القاضي الحر والمستقل هي المصدر الأساسي لإعلان الحق.ولا يمكن للقاضي ان يصبح رديفاً للحاكم او وكيلاً للسياسي والوالي وصاحب النفوذ. الا ان العدالة عند الحسين وقبله الامام علي هي دائما” في التعامل برأفة بعيداً عن القساوة والحدة، لأن العدالة عنده هي للإصلاح بعد احقاق الحق، وهي عدالة ترمم ما انكسر، وتصلح ما افسد، فمع احقاقها للحق عليها ان لا تتعامل بإكراه ، تماماً كما أشار الإمام علي: “ان للقلوب شهوة و اقبالاً وإدباراً فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها فإن القلب اذا أكره عمي”. وهذا ما ينقلنا الى الثورة الحسينية كدعوة للتخطي بعد دعوتيها للتجذير والتجديد. والدعوة للتخطي هنا هي للعبور، عبور مأساة الذات الانسانية المقهورة والمعذبة والمنهكة والمنتهكة الكرامة والعزة التي تفتش عن قواعد العدالة لتطبيقها ونصرة الحق لاحقاقه من الواقعة الكربلائية حتى يومنا هذا للوصول الى قلب الذات الالهية حيث الإنتصار الذي لا يقهر وهو انتصار لحضارة الغفران والرحمة كفضيلة لصيقة بالله تعالى.
لقد اسس لهذه المقاربة القيامية السيد المسيح عندما نادى بالغفران في كل الاحوال وقد يبدو في هذا الامر للوهلة الأولى طوباوية غير قابلة للتطبيق نظرا لقساوة ظروف الحكم ورعاية الناس. الا ان تغليب مبدأ الشورى والإحتكام لأمر الناس بالرغم من الشدة والخيانة وتغيير موازين القوى قد اعطى للفضيلة السامية، اي الغفران امكانية الإختبار السياسي الفعلي مع حسين ابن علي. اذ ان الإمام علي وابنه الحسين قد آمنا ان لا شئ يغلب بالمحصلة ميزان القيم وقوة التحكيم الصحيح وفعالية الكلمة السواء والإلتزام الوثيق بنبذ العنف وسيلة لفرض الحق وصولا” الى تحقيق الصلح والمصالحة والسلام. وان كانت العدالة تهدف الى السلام، في غائيتها، فإن طرائقها مختلفة وهي تقنيات اصبحت معروفة.
إن تاريخ الإسلام بشكل عام قد اعطى لفض النزاعات آليات اربع تبدأ بالصلح يتبعه المصالحة ومن ثم المصافحة لتنتهي بالممالحة. وفي كل الأحوال، لا بديل للحوار بين المسلمين وبين المسلمين وبين اتباع الديانات الأخرى، اذ لا استدامة لأي حل ،مهما عدل، الا بتعزيزه بالاجتهاد الدائم والتفسير المستمر، والتوسيع الرحب، والتعميق الخلاق، فلم يضع الإمام علي ولا من بعده الحسين اي سقف للحوار ، وهكذا علمهم النبي محمد في كل حواراته التي اتت بمصحف المدينة حتى اتفاقات فض النزاعات والسلام فيما بعد. وكما قلنا ان العدالة والمساواة والحرية متلازمين، كذلك الأمر فيما يتعلق بالسلام .فكيف يكون سلام بين شعوب ولا عدالة تعطي لكل ذي حق حقه. هل يبنى السلام على حطام الانسانية؟ هل يبنى السلام على القهر والأحادية والعنصرية ؟ هل يبنى السلام باجتثاث روح السلام وزرع روح الظلم والقهر؟ اليس السلام طمأنينة يعطيه الشعور الداخلي وتأمنه العدالة والقانون؟ كيف للسلام العالمي ان يستتب ولا احتكام بين الدول الا للمصلحة الخالصة من دون اي اعتبار لنظام الحقوق الإنسانية التي نادت بها اساسا” الديانات الإبراهيمية كلها؟ كيف للسلام العالمي ان يكون في حين تبقى القرارات الأممية التي تعلن الادارة الدولية حبرا” على ورق؟ كيف للشعوب ان تنشد السلام، وهي حتماً تتوق اليه، في الوقت الذي ينتفي فيه مبدأي المساواة والعدالة فيما بينها؟ كيف للسلام ان يطبق في حين تبقى قرارات المحاكم الدولية غير قابلة للتنفيذ وقرارات مجلس الامن حبراً على ورق، والامم المتحدة اصبحت سيارة اسعاف تضمد الجراح ولا تشفي العلل؟ ان هذه الاسئلة تطرح اهمية المراجعة الشاملة للثورة الحسينية حتماً، انما كذلك لكل حركة التاريخ التي صنعتها الاديان الابراهيمية، لان هزيمة الانسانية كما نشهد اليوم، هي هزيمة لقيمها مجتمعة ولن يكون نهضة الا بالحوار العميق بين اتباعها اذ لا بديل عن بزوغ حضارة التآخي والسلام.