“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
لم تفلح المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في تلقين الصحافيين والإعلاميين اللبنانيين أفكارها “الدولية” حول تغطية “قضايا اللاجئين” في لبنان. وإذا كان هدف ورشة العمل التي نظمتها المفوضية، وهي الراعي الدولي الرسمي لقضايا اللجوء السوري في لبنان، تهدف الى التخفيف من التشنجات في المجتمع اللبناني بين اللبنانيين والسوريين، عبر “تلقين” الإعلام لمعاييرها في التغطية “السلمية” لمشاكل اللجوء السوري، فإن ما نجحت فيه فعليا هو تظهير الفجوة العميقة بين أفكار المنظمات الدولية وفي طليعتها المفوضية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبين الصحافة اللبنانية التي تنقل صورة الواقع اللبناني المزري والذي زاده اللجوء السوري بؤسا.
ليس مجديا الدخول في تفاصيل المداخلات التي ألقيت في اليوم الطويل في فندق “الموفنبيك” اليوم الثلاثاء، لعلّ المفوضية ومنظمي ورشة العمل، كانوا يهتمون بتظيهر أهمية الوقائع والأرقام وإبراز “عدم الدقة” التي يقع فيها الإعلام اللبناني بحسب وجهة نظرهم.
مثلا، تقول المفوضية عبر عاملين فيها أن عدد النازحين السوريين في لبنان هو مليون ونصف، في حين أن بعض الأرقام اللبنانية تقول أنها مليون و800 ألف، وتركز المفوضية على تفسير الفارق بين مصطلح النازح واللاجئ، وعلى ضرورة “منح صوت” في الإعلام للنازح السوري ، وعلى صحافة السلام.
كلّ ذلك، نال قسطه من النقاش، لكنّ الأهم، المناخ الذي ساد القاعة التي استضافت الصحافيين والإعلاميين اللبنانيين، الذين فوجئوا أيضا بوجود زملاء سوريين في ما بينهم، قيل لهم عند الإستفسار أنهم حضروا بلا دعوات.
والأهم، ضيق الصدر الذي تظهّر مرارا من قبل المنظمين، وبرز أثناء تقديم مديرة الوكالة الوطنية للإعلام لور سليمان لمداخلة قيّمة جدّا، وضعت فيها الإصبع على الجرح من خلال تسليطها الضوء على الأعباء التي يرتبها النزوح السوري على القطاعات المختلفة من الصحة الى التعليم والأمن والإقتصاد وسوق العمل وذلك بأمثلة ملموسة. لم تكد مديرة الوكالة تتحدث لأكثر من 4 دقائق حتى جاء أحد مسؤولين المفوضية سكوت كريغ، طالبا منها التوقف عن إلقاء كلمتها إفساحا للمجال أمام النقاش. فأصرت وأكملت من دون رضى كريغ، وتعرضت سليمان لتشويش من أحد الصحافيين الحاضرين الذي كان يقاطعها عند كل عبارة تتفوه بها.
ولم يتردد كريغ، من توجيه ملاحظة لها بأنها لم تحترم الوقائع، فعدد النازحين حسب المفوضية هو مليون ونصف وليس مليون و800 ألف كما قالت سليمان، وكان رفض تام لاقتراحها بوضع النازحين في المناطق الخالية بين لبنان وسوريا وتوفير ما يلزم لهم.
وبعد أن أنهت سليمان كلمتها، اضطر الصحافيون المخضرمون بمجملهم الى الإستماع الى محاضرة عن أدبيات المهنة و”صحافة السلام”، وهو بحسب معدتها “مفهوم جديد لا يعرفه الصحافيون اللبنانيون”، حول كيفية نقل الحوادث بلا تأجيج المشاعر وإثارة التشنجات، ما أثار حفيظة معظم الحاضرين وبعضهم وبعضهن من المخضرمين والمخضرمات في تغطية الحروب من حرب تموز 2006 وصولا الى “فجر الجرود” ضدّ “داعش” الإرهابي.
باختصار، كان منظمو الورشة يريدون إغراق الصحافيين بمعلومات وتوجيهات ومعايير هدفها الرئيسي التعمية عن الواقع المزري الذي يتسبب به النزوح الى لبنان تحت ستار التخفيف من التشنجات، فأحدثوا تشنجا وتوترا بين الحاضرين لم يكونوا ينتظرونه.
تصدّى الإعلام اللبناني لمحاولة تدجينه في نقل واقع تتستر عنه المنظمات الدولية، بل تصنعه تحت مسمّى المساعدة الإنسانية، ولم يتردد الزملاء من قول الحقيقة المرّة: أنتم تسعون الى توطين مقنّع للنازحين، أما حجّة أن التوطين يحتاج الى موافقة ثلثي أعضاء المجلس النيابي فغير مقنعة لأن التوطين يحصل على الأرض قبل النصوص.
حجج واهية رددها ممثلو المنظمات الدولية ومن يعملون معهم ويدورون في فلكهم من أكاديميين وممثلين لجمعيات ممولة من هذه الجهات كالقول أن معظم النازحين نساء وأطفال…
وحملت بعض المحاضرات نوعا من الترهيب المبطن، كقول جورج غالي من جمعية تدعى “إيلاف” ترصد إنتهاكات سياسات حقوق الإنسان بأن مسؤوليات لبنان القانونية تجاه النازحين أو اللاجئين لا تتغير لأنه لم يوقع معاهدة اللجوء لعام 1951 بل لأن لبنان يخضع لإتفاقيات حقوق الإنسان التي سبق ووقعها. والقول أنه لا يمكن للبنان ترحيل سوري ولو كان مجرما لأنه وقع معاهدة مناهضة التعذيب، فالمطلوب ان يعود “اللاجئ” ولو كان مجرما الى مناطق آمنة وإلا يبقى في لبنان.
وأشار الى أن قرارات الترحيل تصدر من المحاكم وليس للأمن العام اللبناني إلا تنفيذ قرارات المحاكم وأشار الى أنه لا يمكن ترحيل لاجئ الى بلد قد يتعرض فيه للتعذيب.
أرقام وارقام قدمتها لمى سرور التي تعمل في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في شمال لبنان، اختلط فيها الحابل بالنابل وأبرزها أن 98 في المئة من اللبنانيين اعتبروا بأن النازحين السوريين هم سبب للتوترات في لبنان. لكنّ، سرور التي تنقل اللغة “الدبلوماسية السلمية” للمنظمات الدولية لم تقلهابهذا الشكل الفجّ، بل قالت أن 2 في المئة من المستفتين في دراسة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي قالوا أن اللاجئين ليسوا سببا للتوترات! فصحح لها الحضور الرقم وطريقة تظهيره الحقيقية!.
على هذا المنوال، مرّ النهار الطويل في مشاداة بين الإعلاميين وبين من يحاولون حفر أرقام ومفاهيم ينقضها الواقع المؤلم المعاش لبنانيا، من فقر، وجرائم متنامية، ومن منافسة على لقمة العيش، ومن ولادات وصلت الى 100 ألف ولادة من مكتومي القيد سنويا كما قالت لور سليمان. وهذا الرقم اثار سكوت كريغ الذي “صحح” الرقم ليقول أن عدد الولادات السورية هو 128 ألفا منذ بداية الأزمة السورية.
هذه المنظمات الدولية وفي مقدمتها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لم تلامس الجرح اللبناني، بل هي تعمل على إغلاقه عنوة، بالإقناع حينا، وبالترهيب من الملاحقة في حقوق الإنسان تارة أخرى، ثمّ وبعد جولات وصولات من الحجج والحجج المضادة يختصر سكوت كريغ المشهد: اللاجئون السوريون لن يعودوا إلا في حال توافرت ظروف آمنة كليا.
بمعنى آخر، هذا ما يريده المجتمع الدولي، ابعاد كأس اللجوء عنه، وإلصاقه لأعوام بعد في لبنان، بحجة حقوق الإنسان التي لم تحترمها الدول الراعية لهذه المنظمات التي تعمل في إطار أمم متحدة غير فاعلة بشهادة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي نزع عنها ورقة التين أخيرا في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
هذه المنظمات، لم تفلح في إقناع الصحافيين اللبنانيين بأنها واجهة لمشاريع دولية، ولسياسيات وأجندات خفية، تتذرع بالمساعدة الإنسانية لإبقاء مجتمعاتها متراصة ومستقرة وذات لون واحد، في حين تلقي الدروس على مجتمعاتنا الفقيرة والمنهكة والتي تنزف هجرة وبطالة وبؤسا.
بالإضافة الى ذلك، صارت هذه المنظمات مصدر رزق لكثر، ومصدر ارتزاق لكثر، حيث عدم الشفافية في الأرقام والمساعدات تغطيها شبكة واسعة من المنتفعين والمستشارين الذين يقبضون رواتبهم من صناديقها.
لكن الإعلام اللبناني المخضرم والواعي، وجّه لها الرسالة التي يجب أن يسمعها القيمون عليها: لن نقبل بأن تغسلوا أدمغتنا، فالواقع أقوى من الأرقام ومن الرسائل المبطنة ومن المواد حقوق الإنسان التي لا تحترمها دولكم الراعية بشهادات حية وموثقة كثيرة.
وأخيرا، قال سكوت كريغ بأن الشعب اللبناني يجب أن يفيد اكثر من المساعدات، والواقع أن الشعب اللبناني لا يحتاج الى مساعداتكم، ودراساتكم، بل جل ما يريده أن تمولوا دراسات تساعد الشعب السوري على العودة وعلى العيش بسلام كما كان قبل أن تزرع دولكم الحرب في ربوعه.